مقالات

حطام خرائط…هشيم تواريخ

محمد جميح

 

يبدأ الإنسان في كتابة مراحل التاريخ عندما ينتهي من رسم حدود الجغرافيا التي تُرسم – على الأغلب – بالدم، وحيث تنتهي الخريطة يبدأ التاريخ، وفي النقطة التي يحدث فيها احتكاك المكان والزمان تتفجر الحرب، ومن حطام الخرائط وهشيم التواريخ يعيد الإنسان بناء عالمه، وهكذا كان.

 

وفقاً لذلك، حرك فلاديمير بوتين قواته باتجاه أوكرانيا – حسب الرواية الروسية – بدوافع جيوسياسية، خريطة أوكرانيا مقلقة لروسيا، زحف حدود الخريطة الأطلسية باتجاه الشرق – من وجهة نظر روسية – برر تحريك حدود الخريطة في دونباس والقرم، واستدعى إلى الذاكرة تاريخ زحف النازية في بارباروسا باتجاه الشرق. أما الغرب فمع إقراره بأن تحريك الخريطة يستدعي التاريخ، إلا أنه يرى أن التاريخ الذي تم استدعاؤه هنا هو تاريخ زحف السوفييت غرباً، وأن بوتين يلعب دوراً سوفييتياً بمواصفات قيصرية.

 

الروايات مختلفة لكنها تجمع على أن الخرائط تستدعي الخرائط، وتعيد صياغة التواريخ، وأن التواريخ تستدعي التواريخ وتعيد رسم الخرائط، وأن الدم الذي كان يرسم حدود مراعي القبائل البدوية ويكتب تاريخها في العصور السحيقة لا يزال إلى اليوم يخط حدود الخريطة ويكتب مراحل التاريخ، وإن اختلفت التكتيكات والوسائل.

 

وفي الأزمنة السحيقة لم تكن هجرة الإنسان من كوخ الخشب أو بيت الشَّعر إلى بيت الطين وقصر الحجر وصولاً إلى مباني الحديد والأسمنت ومدن التكنولوجيا، لم تكن حركة الإنسان من الغابات والبوادي إلى ضفاف الأنهار وسواحل البحار، لم تكن في معظمها هجرة سلمية، ولكنها كانت ملاحم من المعاناة والدماء والحروب شكلت حدود الجغرافيا ومسارات التاريخ، إذ يبدأ التاريخ في اللحظة التي يشعر فيها الإنسان بضغط الجغرافيا على حركته، ويتململ الزمان في محاولات للتخلص من قيود المكان، الأمر الذي يتطلب كسر حدود الخريطة، ومن كسر تلك الحدود يتشكل مسار التاريخ الذي يقوم في حركة مرتدة بإعادة رسم حدود الخريطة مؤقتاً إلى أن يثور عليها مرة أخرى.

 

وفي الهجرة من جغرافيا الغابة إلى تخوم الضوء، ومن جغرافيا البادية إلى ضفاف الماء، كان الإنسان يعيد تشكيل أخشاب الغابة على هيئة رماح لتساعده في التصدي لمن يعترض رحلته التي غامر فيها بحثاً عن حلمه الشخصي والجماعي في خريطة أفضل، غير مدرك – ربما – أنه بدافع البحث عن خريطة أفضل بدأ يشكل تاريخه بالطريقة ذاتها التي شكل بها فروع الأشجار على هيئة رماح انتهت أخيراً إلى صواريخ عابرة للقارات تحمل رؤوساً نووية، لتتشابك العلاقات الحيوية بين الجغرافيا الطبيعية والتاريخ العسكري في رحلة الإنسان من الكهوف والأدغال إلى التجمعات الحضرية، وفي انتقاله من الاعتماد على الصيد إلى الإنتاج الزراعي ثم إلى طور الحياة التجارية فالصناعية والتكنولوجية التي تخطت الحدود واختصرت المراحل وبلغت مرحلة من الغرور الذي أعلنت معه عولمة الخريطة ونهاية التاريخ مع نهايات القرن العشرين.

 

يبدأ الإنسان في كتابة مراحل التاريخ عندما ينتهي من رسم حدود الجغرافيا التي تُرسم – على الأغلب – بالدم، وحيث تنتهي الخريطة يبدأ التاريخ، وفي النقطة التي يحدث فيها احتكاك المكان والزمان تتفجر الحرب

 

وقبل قرون خرج الأوروبي في رحلات استكشافية تحولت إلى موجات كولونيالية نحو العالمين الجديد والقديم، وكان الخروج بحثاً عن الدفء والطاقة والموارد الأوسع، وهذه المحركات هي ذاتها – مع بعض الاختلاف – التي حركت الهجرات البشرية الكبرى التي خرجت من أواسط آسيا غرباً، ومن شمال أوروبا جنوباً وغرباً، ومن جنوب جزيرة العرب باتجاه الشرق والشمال، وهي في مجملها لم تكن هجرات سلمية، لكن الحرب كانت حاضرة فيها، وعندما تحضر الحرب تحضر الجغرافيا ويحضر التاريخ، ويظل تفاعل حضور الجغرافيا والتاريخ مستمراً، مع محاولات الجغرافيا تقييد حركة التاريخ ومحاولات التاريخ تحريك حدود الجغرافيا.

 

وبتعبير آخر، يمكن الحديث عن الجغرافيا التي تميل إلى الثبات، وهو ثبات يحرك التاريخ باعتبار التاريخ حركة احتجاج ضد جمود الخريطة التي يسهم تحريك حدودها في صياغة محددات جديدة للتاريخ، تسعى – بدورها – لتقييد حركته، غير أنه لا يلبث أن يتفجر في وجه تلك المحددات التي هي في الأصل “سلطة جغرافية” تريد تأطير حركة التاريخ الذي يحاول “الثورة” – من جديد – على سلطة الجغرافيا، لتستمر هذه التفاعلات التي تسهم فيها حدود الخريطة في تفجير صراعات التاريخ، وتعيد فيها حركة التاريخ رسم حدود الخريطة، ضمن مصفوفة مفاهيمية لا يرد الحديث فيها عن الجغرافيا إلا مقترنة بالتاريخ، حيث تغدو الجغرافيا تاريخاً منقوشاً على جلدة المكان، ويصبح التاريخ جغرافيا منحوتة على مسار الزمان، وهنا تتجلى السياسة والحرب كأبرز العوامل المشتركة بين الخريطة والزمن، بين الجغرافيا والتاريخ، بين الغرب والشرق والسلطة والمقاومة، في مغامرة الإنسان المكلفة في البحث عن مكان أفضل وزمان أجمل.

 

الحديث هنا هو حديث عن ثلاثية الجغرافيا والتاريخ والإنسان، إذ لا تكتمل أضلاع المثلث إلا بضلعه الثالث الفاعل والذي هو الإنسان الذي يشْغَل ظرفي المكان (الجغرافيا) والزمان (التاريخ)، وهو الذي يؤثر ويتأثر بالزمان والمكان ويضبط إيقاع عمليات التأثير والتأثر بينهما، وهو الحاضر في محاولات التاريخ إعادة تشكيل الجغرافيا، والحاضر في محاولات الجغرافيا إعادة قولبة التاريخ، في سلسلة متوالية من عمليات التأثر والتأثير بين ماضي التاريخ وحاضر الجغرافيا وحضور الإنسان.

 

وإذا كنا نتحدث عن حدود الخريطة فإننا نتحدث عن الجغرافيا السياسية فقط، لكن الجغرافيا أعمق مفهوماً من مجرد حدود على خريطة، حيث يدخل المناخ وحالته والأرض وسطحها ضمن الجغرافيا الطبيعية التي كان لها أدوار حاسمة في اندلاع الحروب عبر التاريخ، وكان لها دور في حسم نتائج معارك فاصلة، كما في الحرب العالمية الثانية وقصة هلاك الجيوش النازية بسبب الثلج، ومساعدة الأجواء للحلفاء في القيام بالإنزال على سواحل النورماندي شمال فرنسا، وكما حدث للجيش الروماني الذي غزا بلاد العرب الجنوبية (اليمن) قبل الإسلام، حيث مات أغلب الجنود عطشاً في الصحراء، وكما كان في معارك صدر الإسلام بين المسلمين وقريش، حيث لعب الماء دوراً في ترجيح كفة المسلمين في بدر، ولعبت تضاريس الجبل دوراً في خط سير معركة أُحُد، وكان للعواصف الرملية دورها في هزيمة قريش في معركة الخندق، وهي المعارك التي – رغم صغرها – غيرت مجرى تاريخ الشرق الأوسط وأواسط آسيا وشرق أوروبا وشمال أفريقيا، وتخطت آثارها حدود الخريطة، لتعيد تشكيل تاريخ المنطقة والعالم.

 

وهنا يظهر أثر الجغرافيا الطبيعية في إعادة رسم حدود الجغرافيا العسكرية التي تمهد – بطبيعة الحال – لإعادة رسم حدود الجغرافيا السياسية التي يعاد بموجبها تشكيل التواريخ العسكرية والسياسية، في شبكة من علاقات تفاعلية مستمرة.

وبالعودة إلى الحدث الأوكراني فإن الحديث عنه هو حديث عن الجغرافيا والتاريخ بامتياز، هو حديث عن جغرافيا سياسية وتاريخ سياسي يتفاعلان معاً في إطار هذا الحدث، إذ لا يمكن إغفال دور الجغرافيا السياسية (تحريك حدود الخريطة الأطلسية شرقاً) في ذلك الحدث، حسب الرواية الروسية التي ينكرها الغرب، كما لا يمكن إغفال دور التاريخ السياسي (استعادة أمجاد الاتحاد السوفييتي)، حسب الرواية الغربية التي تنكرها روسيا، حيث تبدو الجغرافيا سبباً مقنعاً لاندلاع الحرب حسب الروس، فيما يبدو التاريخ دافعاً قوياً في اشتعالها حسب الغربيين، وبين الروايتين تكمن أهم أسباب هذه الحرب، وأسباب معظم الحروب، وهي الأسباب المتمثلة في الخوف من زحف “الجغرافيا العدو” والطمع في إحياء “التاريخ الصديق”، ومن غريزتي الخوف والطمع يتحرك النشاط الإنساني، وهو النشاط الذي يعيد تشكيل الجغرافيا ويعيد إنتاج التاريخ بجملة من العوامل تأتي الحرب في مقدمتها، ويحضر الإنسان في قلب معادلاتها، باعتبار أنه هو من يعيد حرث الجغرافيا لتنمو فيها شتلات تاريخ جديد يعيد تشكيل الجغرافيا التي تعيد -بدورها – قولبته، حسب سنن منضبطة لا تختلّ، يكشف عنها علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا والتاريخ والجغرافيا، ويختصرها القرآن الكريم في الآية:

“ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض”، ولكي لا تفسد “الجغرافيا” بالثبات الستاتيكي ينبغي أن يتحرك التاريخ، وفي حركته حرث للجغرافيا وتقليب وتهيئة لتربتها، لتلقي بذور جديدة، ومن ثم تبدأ مرحلة أخرى فيها دموع ودماء وآلام، ولكن فيها تحول وصيرورة وحياة.

 

  • نشر أولا في القدس العربي