تاجر متجول وقاطع طريق
د. محمد جميح
قيل إن تاجراً متجولاً كان يحمل بضاعته على ظهر جمل، ويسافر متنقلاً بين القرى والنجوع والمدن المختلفة، إذ اعترضه – فجأة – قاطع طريق مسلح طلب مرافقته أثناء رحلته، من أجل حمايته من قطاع الطرق، فوافق التاجر واصطحب الاثنان. أثناء السفر كان قاطع الطريق يأكل ويشرب على نفقة التاجر، وكان كلما هم بنهب البضاعة تذكر ردة فعل الناس إذا سمعوا بجريمته.
وفي أحد الأيام طلب قاطع الطريق من التاجر – في تصرف غريب – أن يشتمه. اندهش التاجر لغرابة الطلب، وقال: كيف أسبك وأنت رفيق رحلتي وحامي تجارتي، وقد أكلنا وشربنا وارتحلنا معاً؟!، فأصر قاطع الطريق على أن يسبه التاجر الذي وجد نفسه مجبراً – تحت التهديد – على أن يسب رفيقه المسلح. عندها انقض قاطع الطريق على التاجر ضرباً وشتماً، وهو يقول: تسبني وقد أحسنت إليك بحمايتي أيها “الناكر للجميل”؟! ثم أخذ “الجمل بما حمل”، وانطلق تاركاً التاجر المسكين لمصيره المحتوم.
وفي القصة، كان قاطع الطريق يبحث عن “مبرر أخلاقي”، لتسويغ نهب البضاعة، ولما لم يجد ذلك المبرر طول فترة الرحلة قام بافتعاله، كي لا تتكشف شخصية “الرجل النبيل الذي يحمي قوافل التجار” عن “قاطع طريق مجرم”، ولكي تستمر حكاية اللصوص والمجرمين الذين يبحثون عن مبررات أخلاقية ومنطقية لجرائمهم.
هذه الحيلة – بطبيعة الحال – تتكرر عبر التاريخ من خلال مجرمي حرب وقادة وزعماء يبحثون عن مبررات لحروبهم التي يشنونها لنهب “الجمل بما حمل”، في وقت يتحدثون فيه عن “الجزاء العادل الذي حل بالتاجر ناكر الجميل”، الذي ظهر في بروباغندا “قطاع الطرق” على أنه رجل لا يحمل قدراً من الأدب ولا حفظ المعروف.
في 29 أبريل/نيسان 1827 حضر قنصل فرنسا بيير دوفال مجلس الـ”داي” حسين حاكم الجزائر الذي طالبه بدفع الديون المترتبة على فرنسا للجزائر، والبالغة 24 مليون فرنك من مبيعات القمح الذي كانت الجزائر تزود به فرنسا أثناء الثورة الفرنسية، غير أن القنصل ردَّ بغطرسة: “فرنسا لا تتجاوب مع رجل مثلكم”، فما كان من الداي إلا أن طرد القنصل من مجلسه، ملوحاً بمروحته في حالة من الغضب، الأمر الذي اعتبرته الحكومة الفرنسية “إهانة لشرف فرنسا”، وهي الذريعة التي حاولت بها تلك الحكومة تهيئة الرأي العام لغزو الجزائر واحتلالها، ولكن لأسباب أخرى لا علاقة لها بمروحة الداي، ولكن بخزينته وخزائن أخرى في شمال ووسط أفريقيا وغيرها، وهي أسباب اقتصادية وسياسية وعسكرية استعمارية مختلفة، كان لا بد لتحقيقها من اتهام “الداي” بـ”إهانة شرف فرنسا”، وسرقة أموال الصيادين الفرنسيين على السواحل الجزائرية، رغم أن الجزائر استطاعت فك الحصار الاقتصادي الذي فرضته دول أوروبية على فرنسا على خلفية ثورتها.
وفي الأول من سبتمبر/ايلول 1939 أشعل أدولف هتلر حرباً راح ضحيتها عشرات الملايين بذريعة كاذبة تقول إن بولندا اعتدت على ألمانيا، قبل أن يتكشف الأمر لاحقاً عن مجموعة من جنود الصاعقة في الجيش النازي اعتدوا على إذاعة محلية ألمانية على الحدود مع بولندا، على أساس أنهم جنود بولنديون، ليعلن هتلر بداية الحرب الأكثر دموية في التاريخ البشري، والتي انتهت بانتحاره وخراب ألمانيا وانهيار النظام الدولي برمته، وهي الحرب التي كان باعثها الحقيقي السيطرة على أوروبا عن طريق الألمان الذين يمثلون العرق الآري الأسمى، حسب رؤية النازيين الألمان.
الحقيقة هي الضحية الأولى للحرب، وتلك قاعدة مطردة في أغلب الحروب التي يكون الدافع الحقيقي لها هو نزعة الهيمنة، وتكون الراية المرفوعة فيها هي راية الحرية والعدالة وحقوق الإنسان. ونستمر في تتبع تجليات تلك القاعدة، وفي 19 آذار/مارس 2003 غزت الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا العراق بكذبة مفضوحة، هي وجود أسلحة دمار شامل لدى نظام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين.
ورغم نفي كل فرق التفتيش الدولية لوجود تلك الأسلحة، حشدت واشنطن كل ما لديها من وسائل لإقناع مجلس الأمن الدولي بمشروعية الحرب، وحضر – حينها – وزير الخارجية الأمريكي كولن بأول وكذبته الشهيرة التي دعمها بصور مفبركة عن أسلحة نووية في حاويات متنقلة مزعومة عرض باول صوراً لها على المجلس في شباط/فبراير 2003. أما توني بلير فقد حذر حينها من صواريخ يمتلكها صدام حسين قادرة على الوصول إلى قلب أوروبا، وعندما اتضح أن ذلك كله كذب، عمد الأمريكيون إلى ابتكار ذريعة أخرى للحرب، حتى بعد احتلال العراق، وهي نشر الديمقراطية وتخليص العراق من ديكتاتورية صدام حسين، في قصة لا يزال شهودها أحياء. ورغم انكشاف الكذب واصل بلير تبريراته بأن هناك أخطاء، لكن “العراق والعالم أفضل من دون صدام حسين”، وهي كذبة أخرى تضاف إلى كذبة كولن بأول الذي قال لاحقاً إنها كانت “نقطة سوداء” في حياته.
وقد تكررت فصول قصة التاجر المتجول وقاطع الطريق في أفغانستان التي غزتها جيوش الاتحاد السوفييتي بحجة نجدة الحزب الحاكم الحليف في كابول، وغزتها أمريكا ودول الأطلسي بذريعة الحرب على الإرهاب، وفي بلدان عديدة من العراق إلى اليمن وسوريا ولبنان وليبيا وأوكرانيا وغيرها، وهكذا كان.
واليوم تغطي إيران حقيقة حروبها الطائفية التوسعية ضد الدول العربية بشعار المقاومة الذي يعي المراقبون أنه مجرد غطاء لحروب طائفية مدمرة أدت إلى سيطرة طهران على أربع عواصم عربية، حسب تصريحات إيرانية لم يعد يهمها انكشاف “كذبة” المقاومة التي خدعت بها الكثيرين من أتباعها العرب الذين أفاقوا على بلدان مدمرة، تعكس حقيقة أن طهران وظفتهم لخدمة طموحها الإمبريالي وأطماعها الإقليمية، وأنها استطاعت بالفعل تحويل الأراضي العربية إلى منصات إطلاق لصواريخها، وحقول تجارب لأسلحتها، وأنها باتت تتوسع في المنطقة العربية بذريعة مواجهة التوسع الأمريكي، وباتت تهيمن على عدد من العواصم العربية بمبرر مواجهة الهيمنة الإسرائيلية، وأن حرصها على خروج الأمريكيين من المنطقة ليس إلا لكي تحل هي محلهم، في ظل ضعف النظام الرسمي العربي، وعدم قدرته على مواجهة هذا التغول الإيراني الذي يتخادم – بشكل واضح – مع التغول الإسرائيلي والغربي في منطقة تحضر فيها كل المشاريع ويغيب عنها المشروع الذي يمثل إرادة أهلها الحقيقية.
هكذا تحتاج أي حرب إلى مبرر، وتحتاج إلى راية وعنوان براق يحمل الجمهور على تأييدها ويحشد المجندين لها، ومع الزمن يتكشف الأمر عن كذب محض، وأسباب أخرى للحرب، لا علاقة لها بالشعارات المرفوعة، وتتجلى الحقائق ماثلة للعيان، ولكن بعد خراب مالطة واليمن وسوريا وليبيا وأفغانستان وأوكرانيا، وبعد نهب قافلة التاجر “عديم الأخلاق” على يد قاطع الطريق “الشهم النبيل”.