أمس على صورة اليوم!
اقتباس:
إن الفنان الذي رسم رسمة مسيئة لنبي الإسلام – مثلاً – لم يكن ينطلق في تصوره للنبي من واقع تاريخي شارك النبي في صناعته، ولكنه كان ينطلق من أحداث معاصرة شارك متطرفون مسلمون في صناعتها.
المقال:
يحدث أحياناً أن نلقي بصورة الحاضر على وجه الماضي، ونقرأ التاريخ متأثرين بالحالة الراهنة، ونعيد إنتاج الشخصيات التاريخية حسب سياقات الصراع المعاصر، ونستدعي السلف لنصبغهم بصبغة الخلف، ونقرأ النصوص محملين بإسقاطات واقعنا على دلالات تلك النصوص، وهو ما يؤدي إلى تقييمات غير موضوعية في القراءة، إذ أننا نمزج مقارباتنا باللحظة الراهنة التي تضغط على عمليات التناول، وبدلاً من عرض شخصيات التاريخ في صورها الأقرب لواقعها التاريخي، نقوم بتصور تلك الشخصيات على هيئة أشخاص معاصرين، بسبب روابط واهية بين أولئك الأشخاص المعاصرين وتلك الشخصيات التاريخية، وهو ما يؤدي إلى الحصول على «صورة هجين» لا تقارب الشخصية التاريخية ولا تطابق الشخص المعاصر.
وبطبيعة الحال فإننا لا نقصد هنا تلك القراءة التحليلية للتاريخ عبر مقاربات المدارس الحديثة في النقد والتحليل، ذلك أن هذا التناول لا يغفل عن حقيقة كون ظروف وملابسات وحيثيات الأمس تختلف عن سياقات اليوم، وهذا التحليل وإن كان يقارب التاريخ بمنهجية معاصرة، إلا أنه لا يحاول استدعاء الماضي إلى الحاضر أو محاكمة الماضي وفقاً لرؤى ومفاهيم معاصرة، كما أن هذه المدارس تقارب الماضي في لحظة وعي كبير بالحدود الزمنية الفاصلة بين مراحل التاريخ المختلفة، الأمر الذي لا ينتج عنه صور مشوشة للماضي ووقائعه وأحداثه شخصياته.
كما أن المقصود هنا ليس ما عبر عنه الفيلسوف الألماني هانس جورج غدامر بمصطلحه عن «دمج الآفاق» الذي حاول من خلاله أن يوفق بين القراءات التي تنطلق من منطلق السياقات التاريخية التي «أنتجت النص» والأخرى التي تحاول المقاربة، مستلهمة الظروف المعاصرة التي «أنتجت القراءة» كل هذا ليس من شأننا، ولكن الهدف هنا هو تسليط الضوء على تلك المحاولات ـ مقصودة أو غير مقصودة ـ التي بموجبها يحاول البعض إعادة إنتاج التاريخ على صورة الحاضر، أو النظر للقديم على أساس أنه مادة خام يمكن أن يعاد تشكيلها على صورة الجديد، لأغراض محددة بعيدة عن أهداف القراءة الموضوعية.
ولتقريب الصورة، نتحدث هنا عن مسلم معاصر، يحاول أن يَظهر بمظهر النبي عليه السلام، وعوضاً عن أن تنعكس صورة النبي التاريخية على ذلك المسلم المعاصر، نجح المسلم في أن يجعل كثيرين ينقلون صورته هو إلى النبي الكريم. وقد ساعد على ذلك عدة عوامل، في مقدمتها وجود استعداد مقصود ونية مبيّتة لرؤية للنبي على صورة ذلك المسلم الذي فشل في أن يكون صورة جلية لنبي الإسلام، فانتهى الأمر إلى تصوير الإسلام على صورة المسلمين اليوم، لا النظر إليه من خلال الصورة التاريخية للنبي ذاته.
إن الفنان الذي رسم رسمة مسيئة لنبي الإسلام – مثلاً – لم يكن ينطلق في تصوره للنبي من واقع تاريخي شارك النبي في صناعته، ولكنه كان ينطلق من أحداث معاصرة شارك متطرفون مسلمون في صناعتها، ومن ثم تم إسقاطها على الماضي، وبالتالي إسقاط صورة أولئك المتطرفين على وجه النبي الكريم، بكل ما في ذلك من خلل في الأسلوب وغَبَش في الرؤى وسوء في النوايا.
وكما فعل الرسام المذكور فعل كثير من الكتاب الذين لا يختلفون عنه، لأنهم يكتبون من واقع إسقاطاتهم المعاصرة على التاريخ، إذ أن متابعاتهم اليومية لوسائل الإعلام التي تضخ أخباراً كثيرة عن عمليات إرهابية هنا أو هناك شكلت لديهم صورة للتراث الإسلامي برمته، هذه الصورة هي نتاج إفرازات وتداعيات الإرهاب والحرب على الإرهاب، ولكنها لا تستطيع الجزم بأنها صورة ذلك التراث، أو صورة الشخصيات التاريخية التي يسعى البعض لإعادة إنتاجها في صور تمشي مُتزنِّرة بأحزمة ناسفة، في شوارع مدن الحضارة المعاصرة، باحثة عن مدنيين لاستهدافهم بحزام ناسف أو عبوة متفجرة.
يمكن بالطبع أن نقيس على ذلك محاولات علي خامنئي وحسن نصر الله وعبدالملك الحوثي أن يظهروا على صورة «حسين العصر» ولكنهم عوضاً عن أن يظهروا بذلك المظهر، نجحوا في أن يجعلوا «حسين التاريخ» يظهر على صورهم هم، لدى شرائح تتسع يوماً بعد آخر، في ظل انعدام المعيارية، ومع شيوع التنميطات العاطفية في النظر للماضي والحاضر على السواء، وهو الأمر الذي ألقى بصورة خامنئي ـ مثلاً ـ على الحسين، بعد أن أخفق الأول في أن يتقمص صورة الثاني بشكل جيد، وهي العملية الخطيرة التي لا تسهم فيها محاولات خامنئي تقمص شخصية «حسين التاريخ» في إعادة إنتاج شخصيات المعاصرين على صورة الماضين، ولكنها تسهم في إعادة إنتاج الماضين على صورة المعاصرين، بما لهؤلاء المعاصرين من إشكالات واسعة وصور متناقضة، وإسهامات في الحروب الأهلية والصراعات المعاصرة التي يتم إسقاطها على الماضي وظروفه، دون نظر إلى ما سبق ذكره من معطيات وسياقات مختلفة.
والإشكال – هنا – أن عملية إنتاج شخصيات التاريخ في صور شخصيات الحاضر يسهم فيها الأتباع والخصوم على حد سواء، فعندما يذبح الإرهابيون ضحاياهم بالسكاكين، وهم في «مظهر نبوي» فإن الصورة تأخذ بعداً آخر يحاول من خلاله الخصوم والأتباع على السواء أن يقولوا بشكل غير مباشر إن اليد التي تمسك بالسكين هي يد النبي، وهذه هي دلالات الصورة التي تريد إعادة إنتاج الماضي على صورة الحاضر لأغراض موجهة. كما أن زعيم حزب الله اللبناني الذي يلوك اسم الحسين ليل نهار، داعياً عناصر حزبه إلى الاستمرار في قتل السوريين يعمل على إظهار الحسين وهو يخوض حرب حزب الله الطائفية ضد الغالبية العظمى من السوريين.
إن تلك الصور المشوهة التي بموجبها أعيد إنتاج الماضي على صورة الحاضر كان لها أثر تدميري على الصور التاريخية في رمزيتها الدينية، وهو الأمر الذي أسهم فيما نراه من موجات الثورة والتمرد على الصور التاريخية لشخصيات إسلامية كبيرة، تم الزج بها في معارك معاصرة، الأمر الذي هز صورها لدى بعض الذين انطلقوا يُحمّلون علي بن أبي طالب مسؤولية أفعال الحوثيين في اليمن، ويُحمّلون نبي الإسلام مسؤولية تفجيرات لندن ومدريد وباريس وواشنطن ونيويورك، في خلط غير مبرر بين الحاضر وإفرازاته، والماضي وسياقاته.
ومع استعار الحروب الطائفية في المنطقة فإن هذه الحروب على قدر ما تلقي بغبارها على الحاضر فإنها تلقي بطبقة كثيفة من ذلك الغبار على الماضي كذلك، حيث تتحمل شخصيات الأمس نتائج أعمال شخصيات اليوم، وتُشحن النصوص بدلالات متأثرة بإسقاطات معاصرة، ويتهم نبي الإسلام ـ لا الإرهابيون المعاصرون ـ باستهداف الإيزيديين والمسيحيين في العراق، ويصبح علي بن أبي طالب ـ وليس الحوثي ـ هو الذي يحاصر مدينة تعز اليمنية، ويغدو الحسين ـ لا خامنئي وحسن نصر الله – مسؤولاً عن قتل وتشريد الملايين في سوريا، وفقاً لهذه المنهجيات المغلوطة.
ومع استمرار الحروب الأهلية الإسلامية يعمد المسلمون إلى نبش قبور رموزهم التاريخية وإعادة موقعتهم في ساحات تلك الحروب المعاصرة، وهو ما يزيد الحروب استعاراً، ويزيد تلك الرموز التاريخية استنزافاً لأبعادها الروحية والرمزية.
وبالمجمل، فإن الشخص المعاصر الذي يحاول أن يلقي على وجهه صورة الشخصية التاريخية، هذا الشخص لا ينجح في تصوير نفسه ـ إيجاباً ـ على هيئة تلك الشخصية، قدر ما ينجح في تصويرها ـ سلباً ـ على صورته، وهنا مكمن الخطر والخطل في الآن ذاته.