مقالات

لسنا عربا…!

اقتباس:

اليوم نسمع أصواتاً كثيرة تصدر عن مزاج عاطفي متأثر بالمتغيرات السياسية والأمنية في عدد من البلدان العربية، هذه الأصوات تحاول التنصل من العروبة، على اعتبار أنها مواصفات جينية تخص سكان وسط الجزيرة

المقال:

يقترب العنوان من تخوم سؤال الهوية المتفجر في بعض البلدان العربية، والذي يعود إلى الظهور بين الفينة والأخرى، كلما استعرت الصراعات العرقية والطائفية والسياسية في هذه المنطقة التي تصبُّ نُخبهُا الثقافية والسياسية الزيت على نار صراعاتها كلما انكفأت تحت الرماد.

ومع الحروب المستعرة في المنطقة تستمر حرب أخرى أكثر عمقاً حول الهوية الجامعة لشعوب هذه المنطقة التي كان لها دور كبير في بناء واحدة من أعظم الحضارات العالمية، وهي الحضارة العربية الإسلامية التي عبرت إلى الأندلس ومنها إلى عقول وقلوب مفكري عصر النهضة الأوروبية الذين يعد الكثير منهم تلاميذ للمدرسة العربية الإسلامية التي تجاوبت أفكارها في مناطق حوض المتوسط والأندلس.

واليوم نسمع أصواتاً كثيرة تصدر عن مزاج عاطفي متأثر بالمتغيرات السياسية والأمنية في عدد من البلدان العربية، هذه الأصوات تحاول التنصل من العروبة، على اعتبار أنها مواصفات جينية تخص سكان وسط الجزيرة الذين خرجوا منها في القرن السابع الميلادي يحملون لغتهم ودينهم إلى أواسط آسيا وشمال أفريقيا وعبروا مع طارق بن زياد وموسى بن نصير إلى الضفة الشمالية للمتوسط.

ومع إلحاح سؤال الهوية الناجم عن حالة من الإحباط لدى كثير من شرائح مجتمعاتنا، بفعل فشل مشروع النهضة وما تلاه من انتكاسات، برزت أصوات انعزالية داخل بلدان عدة تعاني من اضطرابات سياسية في جوهرها، تدعو إلى العودة إلى مراحل ما قبل العروبة التاريخية.

فتجد اليمني الذي يقول لسنا عرباً، نحن أحفاد السبئيين والحميريين الذين بنوا حضاراتهم العظيمة قبل وجود الهوية العربية بميزاتها التاريخية المعروفة، وتجد المصري الذي يقول لسنا عرباً، نحن نسل الفراعنة الذين بنوا الأهرامات، والمغاربي الذي يقول لسنا عرباً نحن بناة قرطاجة، قبل الفتح العربي لشمال أفريقيا، وتجد دعوات مشابها في العراق وبلاد الشام تردد ما هو انعكاس لحالة الإحباط والتيه الهوياتي التي تعيشها بعض الشرائح في بلداننا العربية.

والواقع أن الذين يطلقون مثل تلك الدعوات بين الحين والآخر يخلطون بين أكثر من مكون من مكونات الهوية التي تحددها جملة من العناصر لا يأتي العرق في مقدمتها، بل تأتي اللغة التي صهرت الأعراق في بوتقة فكرية وشعورية واجتماعية متجانسة، حيث تدخل عناصر العرق واللغة والثقافة والدين والجغرافيا والتاريخ ضمن مكونات الهوية التي يصعب اختصارها في مكون واحد ربما كان أضعف تلك المكونات، وهو المكون العرقي الذي يراد اليوم قصر الهوية عليه، للتأسيس لصراع الهويات كي يضاف إلى صراعات تلك المنطقة الساخنة.

والواقع أن من يطلق تلك الدعوات يضع نفسه في مواجهة مع تاريخ طويل من انصهار مكونات الهوية العربية ثقافياً وعرقياً ودينياً، حيث إن اللغة العربية كانت العامل الأبرز في تشكيل هوية شعوب تلك المنطقة مع الهوية الدينية، حيث اتسعت تلك اللغة لتشمل فلسفة اليونان وفنون فارس وحكمة الهند وتقاليد العرب، لتشكل الهوية الثقافية لشعوب تلك المنطقة.

من هنا فإن اليمني الذي يريد أن يتمايز عن عرب وسط الجزيرة بدعوى أن اليمنيين كانوا أصحاب حضارة قبل وجود تلك القبائل في بوادي الجزيرة، هذا اليمني يجهل حقيقة التمازج بين عرب الجنوب وعرب الشمال، ودور طريق الحرير القديم والعوامل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الأخرى في ذلك التمازج.

ثم إن أصحاب تلك الدعوات الانعزالية يقعون في تناقض عجيب، عندما يعبرون باللغة العربية عن عدم عروبتهم، إذ يستحيل العودة إلى اللغات العربية المندثرة التي تطورت عنها اللغة العربية، كالعربية الجنوبية في اليمن، والسريانية القديمة المتطورة عن الآرامية والفينيقية وتطوراتها القرطاجية، وغيرها من لغات لا يمكن اليوم أن تشكل هويات مغايرة.

والشيء الذي يغيب عن وعي أصحاب تلك المشاريع الصغيرة هو أنها ليست مشاريع مبنية على أسس معرفية، قدر ما هي ردة فعل آنية وانفعالية لواقع مضطرب، لا تلبث أن تخفت بمجرد تغير ذلك الواقع المتحرك في بحر الرمال الذي نعيش على سطحه.

وقد شهدت المنطقة دعوات مشابهة قبل عقود غير أنها انتهت دون أن يكون لها أي أثر في مجرى التاريخ الثقافي لشعوب تلك المنطقة، وقد رأينا كيف حاول البعض بتأثيرات سياسية معينة أن يحاول فصل «سوريا الكبرى» عن سياقاتها العربية، وبلغ الأمر في بعض الفترات حد الدعوة إلى اعتماد العاميات بدلاً من العربية الفصحى، بل واعتماد الحرف اللاتيني في كتابة اللغة العربية، أسوة بما فعل مصطفى كمال في تركيا، غير أن هذه الدعوات ذهبت مع الريح لأسباب كثير ة يطول شرحها هنا.

كما أن أصحاب تلك الدعوات أو لنقل إن أصحاب تلك المشاريع يجهلون حقيقة أن الشخصيات التاريخية التي أسهمت في صناعة تاريخ المنطقة لم تكن على الصورة التي تحاول تلك المشاريع إعادة إنتاجها عليها، لخدمة أجندة سياسية محددة.

فطارق بن زياد وموسى بن نصير ونور الدين زنكي وصلاح الدين الأيوبي وابن سيناء وابن رشد والفارابي والغزالي لم يكونوا ينظرون لأنفسهم بالمعايير العرقية التي تحاول المشاريع الهوياتية اليوم أن تفصلهم على مقاسها، بل كانوا شخصيات فارقة في التاريخ، أسهمت وفقاً لسنن هذا التاريخ وظروفه في تشكيل السمات الثقافية لأبناء تلك المنطقة، منطلقين من الثقافة العربية الإسلامية التي صهرت في بوتقتها الكثير من الأعراق والعلوم والثقافات.

إن خطورة مثل تلك الدعوات الانفعالية لا تأتي من قدرتها على اجتراح هوية جديدة لا تستطيع اجتراحها، ولكن من قدرتها على التشويش الذي يؤشر على وجود أزمة هوية مفتعلة غير حقيقية، بين مكونات الهوية العربية الإسلامية التي أسهمت تاريخياً في تحديد ملامح تلك الهوية دينياً وثقافياً، والتي كانت حاضرة لدى الغزالي وابن رشد وهما يبدعان «التهافت» و«تهافت التهافت» ولدى طارق بن زياد وصلاح الدين وهما يتحركان باتجاه القدس والأندلس، وتحت قيادتيهما آلاف المسلمين من عرب وكرد وأمازيغ شكلوا هوية لغوية وروحية مرتكزة على لغة القرآن ومعتقدات الإسلام، مع الاعتراف بالحدود العرقية التي لم تكن لتشكل المكون الأهم ضمن عناصر الهوية التي يراد لها اليوم أن تختصر في أبعادها الجينية وحسب.