في القاهرة…ليل لا ينام
لبعض الشغل أو بعض الراحة أو بعض الهروب نجد أنفسنا في مدينة ما، في مقهى ما، على شاطئ ما أو في أدغال تتشعب منها خيالات غامضة. حب الرحيل في الإنسان جزء من حبه التجديد: تجديد المكان والزمان والأشخاص والأحداث، نسافر أحياناً في المكان، وأخرى في الزمان، وثالثة نترحل في داخلنا، كأننا نبحث عن شيء غير موجود، أو شيء فقدناه قبل ميلادنا بأزمنة سحيقة. قد يكون ما نبحث عنه شيئاً، قد يكون شخصاً أو زمناً أو مكاناً أو معنى ضاع بين ركام اللغات.
وكل رحلة بمذاق، حسب الوجهة، أكانت مدينة، أو شاطئاً أو مقهى أو غابة، وكل مدينة بمذاق، بلون، بروح، بحكايا وذكريات.
والمدن كالناس، هناك مدن تبعث فيك الكثير من الهيبة، فلا تذهب للقائها إلا وأنت في ملابسك الرسمية، ومدن أخرى تذهب إليها بروح عاشق يذهب للقاء الأول، وثالثة تنعقد بينك وبينها صداقة، ورابعة وخامسة وسادسة تزورها لتعيش تجربة روحية أو حسية، أو لتسير في أدغال تاريخ سحيق، أو تسبر أعماق تضاريس نابضة، أو أزقة مكتظة بالشغف والضجيج والباعة المتجولين.
والمدن كالنساء، لكلٍ شكل ومزاج وجو ومفتاح، والعلاقة بين المدينة والمرأة قديمة، وشاعر اليمن عبدالعزيز المقالح يقول عن صنعاء: «كانت امرأة هبطت في ثياب الندا ثم صارت مدينة» وقلب كل مدينة ينبض في مسارحها، وذوق المدينة في معارض لوحاتها الفنية، كما هو في أطباق مطاعمها التقليدية، وروحها تحتشد في أسواقها الشعبية المكتظة بالألوان والأصوات، وعقل المدن في إنتاج مكتباتها المختلفة.
وروما تختلف عن لندن، والأخيرة تختلف عن باريس وبروكسل وبرشلونة، وتلك المدن في كفة والقاهرة في كفة، القاهرة روح التاريخ وسحر الجغرافيا، وملتقى الحضارات.
وفي القاهرة تبدأ رحلة العشق منذ اللحظة الأولى التي تدخل فيها مطارها الدولي، حيث يستقبلك المصريون ببسمات تزيل آثار التعب المعلقة على ملامح الوجه، إثر ساعات من التحليق المرتفع، والسفر فوق السحاب.
وفي النهار تبدو القاهرة أجمل، وفي المساء تبدو أجمل، وأنت تحار أي وجهيها هو الأجمل؟ وهي مدينة لا تنام حتى تصحو، وعندما تصحو تمتلئ الشوارع والأسواق والأزقة والحواري والمقاهي والمطاعم والأسماع والأبصار والقلوب والأرواح. وفي «وسط البلد» تجد مكتبات لا تزال صامدة، وعلى الرغم من سطوة التلفونات والأجهزة الذكية التي حولت القراءة من الكتاب والصحيفة إلى شاشة تلفون، إلا أن القاهرة لا تزال تطبع الصحف والكتب، ولا تزال دور النشر تنشر، والكتب تباع في المكتبات والأكشاك، وفي بسطات الشوارع. وفي مكتبات القاهرة تخرج من أجواء باريس ولندن، وتدخل عالماً آخر، وأنت تتصفح المنفلوطي والرافعي والعقاد وطه حسين وشوقي وحافظ وزكي نجيب محمود وعبدالوهاب المسيري ونجيب محفوظ ويوسف إدريس وأنيس منصور وعلاء الأسواني، وعلى صفحة النهر – مساء – تصدح أم كلثوم وصباح ووردة وعبدالحليم وفريد وأصوات راقصة أخرى، في مساءات صيفية لا ألذ ولا أمتع، ومن الماء تنبعث الأصوات المتأرجحة في الأجواء والألوان المنعكسة على صفحة النهر في المساءات الحالمة.
وأنت في شوارع القاهرة ترى الدراما الحقيقية وتشاهد أفلام عادل إمام وفريد شوقي ونور الشريف ويسرا وفاتن حمامة وهناء ثروت، وتدرك أن السينما المصرية عكست الكثير من واقع المصريين، في آمالهم وآلامهم، أفراحهم وأتراحهم، وسينما الستينيات والسبعينيات والثمانينيات تعكس الحياة اليومية بشكل أكثر وضوحاً من سينما الألفية، حيث نفتقر للقصة والسيناريو وربما افتقرنا للجمهور.
وفي القاهرة تقف تماثيل عرابي ومصطفى كامل وسعد زغلول وأم كلثوم مشيرة لتعلق المصريين برموزهم، وفيها يتجاور عبدالناصر والسادات ومبارك دون أن يمحو اللاحق تاريخ السابق، كما يحدث في كثير من المدن والبلدان.
وتاريخ مصر لا يزال حياً في أسماء شوارع القاهرة، ومعالمها العظيمة، وفي الآثار الفرعونية والرومانية والإسلامية، والقاهرة مدينة متصالحة مع تاريخها وحاضرها، وهي ليست ككثير من المدن التي تعيش حالة من فصام الشخصية، أو التي تحاول سحب ماضيها من جلبابه إلى الحاضر، أو تنسحب كلية من إيقاع عصرها لتحشر نفسها في جبة الماضي القديم، بل تعيش حالة تصالح مع ثقافتها ومعتقداتها، وفيها تنوع وتعدد ونسيج منسجم، وفيها علي بن أبي طالب في حالة سلام مع معاوية بن أبي سفيان، وفيها يصلي المصلي في جامع الحسين ظهراً، ويصلي المغرب في جامع عمرو بن العاص الذي تحبه القاهرة فاتحاً عظيماً، كما تحب الحسين شهيداً مجيداً، دون أن تتحرج من الجمع بين حبين قد يبدوان متناقضين لدى البعض. كل الرموز والشخصيات -هنا – يتم النظر لها بشكل إيجابي ساعد كثيراً على نوع من انسجام المجتمع المصري وأسهم في سلمه الاجتماعي، حيث لا تعرف القاهرة ما تشهده المنطقة من استقطابات طائفية نجت منها مصر المحروسة.
والمصري شخص متدين بطبعه، وعباراته لا تخلو من كلمات الشكر والحمد والدعاء والإيمان، والقرآن موجود في أغلب سيارات الأجرة، وآية الكرسي معلقة على مرآة السيارة، ومن مآذن القاهرة خرجت أندى أصوات الأذان، وفي مساجدها تشعر بالملائكة تتلو القرآن، وتحلق بعيداً مع عبدالباسط والمنشاوي، ولا يزال الشعراوي حاضراً في خواطره المدهشة، ومصطفى محمود ينير الكثير من الدروب المعتمة، والأزهر وشيخه الجليل أحمد الطيب يمدان الحياة الروحية بزخم إنساني كبير، وفي الشارع لا نُميز بين المسلم والمسيحي، حيث الكل يستعمل العبارات ذاتها: «الحمد لله، وربنا يكرمك، الله يخليك» والمسجد والكنيسة في جوار غير متخاصم.
وفي الشارع والمقهى والمطعم تسمع عبارات المجاملة اللطيفة: «يا بيه، يا باشا» وتقول للمصري إنك من اليمن، فيقول «أجدع ناس» وهي العبارة التي يقولها المصري للسوري والليبي والسوداني والعراقي والخليجي ولأي عربي يقابله، ويرى البعض أن تلك العبارات التي تقال للكل، هي ضرب من المجاملات غير الحقيقية، لكن المصري يقولها للكل، لأنه هو «الجدع» وهو «البيه والباشا»، وهو الذي يُشعرك دائماً بأنك في بلدك، لكثرة ما يقدمك على نفسه ليجعلك تعيش وطنك في القاهرة.
والمصري شخصية مرحة، يشكو أحياناً من ضيق الحال، لكنه يحمد الله، وتراه رغم همومه يطلق النكتة الذكية، والضحكة المجلجلة، وتراه يغني ويرقص ويمارس حياته الحسية والروحية دون انفصام، وهو الذي يهتف: «الله الله الله» حين يسمع أم كلثوم أو عبدالباسط عبدالصمد، دون أن يتحرج من الاستمتاع بالنغمة الجميلة والتسبيحة الخاشعة. والمصري صبور وعنده قدرة على انتظار الغد الجميل، ولا أعتقد أن أحداً يحب بلده كما يفعل المصريون، وأقول لصاحب التاكسي: أنتم محظوظون، نجوتم مما أصاب اليمن والعراق وسوريا وليبيا وغيرها من بلدان الربيع، فيقول: «السر يكمن في أن الناس هنا قلوبها عند بعضها» ثم ينطلق يحدثك بحماس عن «مصر أم الدنيا» وتعيش معه جوه، جو القاهرة، وتجد نفسك تقول بحماس: «مصر أم الدنيا وأبوها» وهي بالفعل كذلك.
وفي مصر لا يعاني ملايين السوريين واليمنيين والليبيين والسودانيين وغيرهم من الشعور بالغربة، وإذا حدث أي سوء تفاهم بين مصري وعربي فـ»أخونا العربي على حق» وتسمع دائماً عبارات: «أنتم مش ضيوفنا أنتم أخوتنا». ويذكر صاحب التاكسي قرابة ثلاثين ألف شهيد مصري دفعوا حياتهم ثمناً لانعتاق اليمنيين من ظلم وتخلف وفساد نظام حكم الأئمة الرجعي في شمال البلاد، ونتحدث عن دعم جمال عبد الناصر لثورة الجنوب ضد الاستعمار البريطاني، وتضحيات مصر الكبيرة التي جعلت مصر في صدارة المشهد العربي والعالمي.
وعودة مصر للريادة ضرورة مصرية وعربية، والعودة ممكنة بشيء من التنسيق بين مراكز القوى العربية المختلفة، على أن يحل التكامل الحقيقي مكان الصراعات النكدة، والعودة تعني استنهاض الكثير من الهمم، واستلهام الكثير من التجارب، ولذا يلزم مصر والمنطقة كلها الكثير من الهدوء وإتاحة الفرصة للتفكير في مسارات مشروع عربي تتوفر له كل عوامل النهوض، بقليل من التنسيق والتحديث والتسامح والانسجام.
وفي رحلة العودة لباريس، تغمض عينيك على مقعد الطائرة وتعود للقاهرة، وتبدأ بضابط المطار الذي ودعك قبل قليل: «مع السلامة يا باشا» لتجد نفسك هامساً: «مع السلامة» يا مصر، يا قاهرة، يا أجمل الذكريات.