مقالات

صراع تكتيكي ومصلحة استراتيجية

د. محمد جميح

ذكرت في مقال الأسبوع الماضي أن إيران انتقلت من دور «شرطي المنطقة» أو شرطي الخليج الذي لعبته في عهد الشاه إلى دور «بلطجي الحارة» الذي تلعبه منذ مجيء الخميني إلى سدة الحكم في طهران وإلى اليوم، ويكتسب الدوران أهمية كبيرة في خدمة مصالح قوى دولية معروفة رغم تعارض المهام الموكلة إلى لاعبَي الدورين، ذلك أن جوهر تركيبة الدولة العميقة بين إيران الشاه وإيران الخميني لم يختلف كثيراً في أبعاده الإمبراطورية ومحتواه القومي، كما أن هذه الدولة قدمت خدماتها بشكل مباشر من خلال دور الشرطي، واستمرت بتقديم الخدمات في دور البلطجي، وإن بشكل غير مباشر أو غير ظاهر.

لقد كان دور الشرطي ضرورياً على أيام الشاه لأن المصالح الغربية الاستعمارية حينها اقتضت «حفظ النظام الإقليمي» وهي الوظيفة التي اقتضت وجود الشرطي الذي ترافق مع وجود النسخة التقليدية من الاستعمار المباشر، تماماً كما أن دور البلطجي مهم اليوم للمصالح ذاتها التي اقتضت وجود البلطجي من أجل «حفظ الفوضى الإقليمية» المناسبة للمصالح غير التقليدية للمستعمرين القدامى في ثوبهم الجديد، بعد انتهاء عهود الاستعمار في نسخته التقليدية.

وإذا كانت وظيفة الشرطي بلا قيمة دون وجود البلطجي، الذي يعطي وجوده المبرر القانوني لوجود الشرطي، فإن تحول إيران من دور الشرطي إلى دور البلطجي حتّم الاعتماد على شرطي آخر أكثر أهمية يتمثل في الدولة الإسرائيلية التي أصبحت شرطي المنطقة منذ عقود مضت، في مقابل بلطجي الحارة الجديد في إيران، وذلك كي تكتمل عناصر رقصة التانغو أو لعبة القط والفأر في ذلك المسرح الكبير المسمى الشرق الأوسط.

وكما يحدث أن تقتضي المصلحة في كثير من الأحيان أن يكون هناك نوع من التواصل غير المعلن بين الشرطي والبلطجي، وكما يحدث أن يتورط ضباط شرطة كبار في أعمال بلطجة، ويشاركوا في صفقات لتهريب سجناء والتستر عليهم، وينسقوا مع تجار المخدرات والتهريب فإنه يحدث أن يوجد هذا النوع من التنسيق بين الشرطي والبلطجي الإقليميين، عندما تقتضي ذلك مصالح معينة، مع إفساح المجال للرواية التقليدية حول القط والفأر التي تعتمد على سردية العلاقة النمطية بين الشرطي والبلطجي، وهي العلاقة القائمة على الملاحقة الدائمة والصراع المرير.

ومع ذهاب الشاه وانتهاء دور إيران الشرطي ومجيء الخميني وبداية دور إيران البلطجي ضخت وسائل الدعاية الإيرانية كماً هائلاً من الشعارات والمقولات التي تعمل على رسم الصورة النمطية بين إيران من جهة والقوى الغربية وإسرائيل من جهة أخرى على أساس أنها علاقات العداوة والصراع.

وهذه العلاقة في جانب منها تظهر «الصراع التكتيكي» في مقابل «المصلحة الاستراتيجية» حيث يخدم ذلك الصراع التكتيكي بين الطرفين مصالحهما الاستراتيجية المشتركة، إذ يتحتم أحياناً وجود مصالح مشتركة بين الشرطي والبلطجي تحتم نوعاً من التنسيق لحفظ المصالح، أو على الأقل لمنع الانزلاق للمواجهة رغم الخصومة التقليدية. دعونا نلتقط جزئية بسيطة باستعراض بعض المحطات فيما يخص البرنامج النووي الإيراني الذي وضع الأمريكيون لبنته الأولى ثم شاركت قوى غربية عدة في بنائه وتطويره.

والجزئية التي نريد الحديث عنها هي التهديدات الإسرائيلية ضد برنامج طهران النووي، فمنذ أكثر من 11 عاماً وتحديداً في حزيران/ يونيو 2008 قالت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية «إن إسرائيل نفذت تدريبات عسكرية واسعة هذا الشهر في خطوة تبدو استعدادا لهجوم عسكري ضد منشآت إيران النووية».

ومنذ ذلك التاريخ وقبله وبعده تعيد علينا الصحافة العالمية ـ بين الحين والآخر ـ العناوين ذاتها مع تحويرات بسيطة، مثل: يديعوت أحرونوت تسرب أحدث الاستعدادات الإسرائيلية لضرب البرنامج النووي الإيراني، والجيش الإسرائيلي بدأ تدريبات على هجوم محتمل ضد إيران، والجيش الإسرائيلي يتلقى تعليمات بالاستعداد للهجوم على المنشآت النووية الإيرانية، ومن مثل: وحدات من الكوماندوز الأمريكي والإسرائيلي تنظم مناورات في منطقة النقب وشواطئ إيلات تحاكي هجوماً على إيران، ناهيك عن الإعلان عن أكبر مناورة جوية تقودها إسرائيل استعداداً لضرب المنشآت النووية الإيرانية، أما آخر تلك العناوين فتضمن الإشارة إلى أن انطلاق الهجوم سيكون مطلع العام المقبل، في أغرب تسريب لساعة الصفر في حرب يفترض بها أن تكون في غاية السرية لضمان عنصر المباغتة.

وبطبيعة الحال فإن تلك العناوين يمكن أن تفهم منها رسائل متعددة، إلا أنها لا يمكن أن تعكس جدية في التنفيذ، ليس لعدم القدرة على ذلك، ولكن لأن دور بلطجي الحارة مهم لاستمرار المصالح الغربية، بالقدر نفسه من الأهمية المتعلقة بدور شرطي المنطقة. وكل ما هو مطلوب من البلطجي أن يعيد ضبط سلوكه في الاتجاه الصحيح الذي لا يضر بالمصالح الغربية والإسرائيلية، والذي يحصر ضرره على المصالح العربية والإسلامية.

ورغم كل ذلك الوضوح في إيقاع العلاقات يتزايد الضخ الإعلامي الممزوج بالدعاية الدينية من طرف طهران، وهو الضخ الذي يحدث معه أن يتحمس كثير من «عيال الحارة» لدور «الفتوّة» الذي يمارسه البلطجي، والذي يثير إعجاب المراهقين ويتبعه الكثير من المتحمسين، غير مدركين لطبيعة هذا الدور، ولا حقيقة أنهم يخدمون المصالح التي ظنوا أنهم يعملون على ضربها، وهذا بالضبط ما وقع فيه الكثير من الشباب المتحمس الذي انخرط ضمن جماعات مسلحة عملت على تمزيق النسيج الاجتماعي داخل دولها، ونشر الفتن الطائفية، وضرب السلم الأهلي، وإضعاف سلطة الدولة، الأمر الذي أدى إلى تلاشي الهوية الوطنية الجامعة لصالح هويات طائفية وجهوية وقبلية وعرقية متعددة، جعلت دولاً عربية بعينها مسرحاً لحروب المصالح الدولية والإقليمية، ناهيك عن دوران عجلات التصنيع الحربي وضخ مليارات من المال العربي لصالح تلك المصانع في صفقات تسلح صبًّت جميعها في جيوب أولئك الذين تزعم طهران أنها تريد التخلص من هيمنتهم على المنطقة، في الوقت الذي أعطى دورُها التخريبي المبرر الكافي للقوى الدولية المختلفة للحضور بكثافة في المنطقة التي ضحت أجيال من أبنائها في سبيل التحرر من هيمنة تلك القوى قبل عقود من الزمن.

ومع كل ما سبق فإن الكثير يتحدثون عن عداء حقيقي بين إيران من جهة وأمريكا وإسرائيل من جهة أخرى، وأن إسرائيل تضرب المصالح الإيرانية في البر والبحر، فيما تتعرض طهران لبعض المصالح الغربية هنا وهناك، وفي هذا جانب من الحقيقة، غير أن ذلك الصراع يبدو من قبيل محاولات البلطجي تحدي دور الشرطي لانتزاع المزيد من الاعتراف بمناطق نفوذه في الحارة، وفقاً لمحددات عريضة لا يتم تجاوزها، وهو الأمر الذي يجعل الشرطي يرسل رسائل مخففة للبلطجي على شكل ضربة جوية في سوريا أو اغتيال عالم نووي في طهران، وذلك من أجل أن تصل للبلطجي رسالة واضحة عندما يتجاوز الحدود المرسومة لأعماله البلطجية، كي لا يتجاوزها إلى غيرها، أو بعبارة أخرى فإن المطلوب من طهران أن تمارس بلطجتها بالطريقة التي تخدم المصالح الغربية، كما هو جوهر دورها، لا أن توجه أعمال البلطجة ضد هذه المصالح، وهو الأسلوب القائم على قاعدة أن الصراع التكتيكي بين طرفين يخدم المصالح الاستراتيجية لهما بشكل أفضل. ولا يغيب عنا هنا أن ضربة خفيفة من أم على كف طفلها الذي يقترب من النار تعني حرص الأم على طفلها لا كراهيتها له، وهذا ما ينبغي أن نفهمه من مضامين الرسائل الموجهة لإيران من طرف بعض القوى بين الحين والآخر على شكل ضربات تنبيهية خفيفة للتذكير بحجم الدور المرسوم لها لا أكثر.

وبعبارة أخرى، فإن المطلوب من إيران أن تكون قوية بالقدر الذي يؤذي المصالح العربية، ولكن ليس إلى الحد الذي يمكن أن يؤذي المصالح الغربية والإسرائيلية.

بقي أن نشير إلى أن الغرب قضى عقوداً طويلة في التعاطي مع البرنامج النووي الإيراني، ولكنه دمر المفاعل النووي العراقي في هجمات مكثفة خلال دقائق معدودة. «وكذلك يفعلون».

– القدس العربي