ملخص دردشة في معايير الوطنية والعمالة
د. محمد جميح
إن احتكار مفاهيم الوطنية والمقاومة يُعَد انعكاساً لحصر الحق في شريحة معينة على أساس جيني، لا يهدف لتجسيد هذه المفاهيم، بقدر ما يهدف لإلغاء الآخر بشيطنته واغتياله معنوياً وجسدياً، وحصر الوطن والمقاومة في لون واحد يتدثر بشعارات فارغة لأغراض سياسية.
الوطن هو أنا، هو حزبي، هو مذهبي الأيديولوجي، والوطنية هي ما أنا عليه من توجه ومصالح وسياسات، وكل من عداي مرتزق وخائن وعميل لأمريكا وإسرائيل واليهود والنصارى وقوى الاستكبار.
حتى لو ارتكبت الفعل ونقيضه فإن الفعلين وطنية، وحتى لو تمسك خصومي بسياساتهم التي يرونها مع الوطن فإنهم يظلون مرتزقة وعملاء.
قبل عام 1962 كان بدر الدين الحوثي والد زعيم المتمردين الحوثيين أحد أنصار أسرة آل حميد الدين الإمامية التي حكمت شمال البلاد باسم «الحق الإلهي» لها في الإمامة، وبعد انتصار الجمهورية وخروج آل حميد الدين من البلاد إلى السعودية خرج بدر الدين وأسرته مع الإماميين الملكيين الذين خرجوا من البلاد إلى المملكة، وظل بدر الدين وأسرته يأكل ويشرب ويسكن ويعيش ويتمتع بامتيازات كبيرة ومخصصات مالية له ولأسرته لعقود طويلة إلى أن عاد والأسرة بعد تحقيق الوحدة اليمنية عام 1990.
واليوم يقول «محظيّو السعودية» السابقون عن خصومهم الذين هجروهم داخل اليمن من النازحين، أو خارج اليمن من اللاجئين إنهم مرتزقة وعملاء لدى السعودية.
هذا التوصيف جميل، لكن هل ينطبق وصف «الارتزاق» على بدر الدين وأولاده الذين نمت لحوم أجسادهم من أموال السعودية؟
وماذا عن المنح والعطايا والهبات والامتيازات التي قدمت للعائلات الإمامية التي لازالت إلى اليوم تعيش في السعودية ممن جيوبهم مع السعودي وقلوبهم مع الحوثي؟ ماذا عن تمكين هؤلاء من قيادة أعمال، وفتح المجالات أمامهم للحفاظ على امتيازات أفضل مما كانت لهم عندما كانوا حكاماً لشمال اليمن؟
ظلت هذه الأسر الإمامية تعيش على نفقة السعودية، وفي الوقت نفسه تهيئ نفسها للعودة لليمن، لأنها لم تتخل عن أحلام السيطرة المدعومة بمقولات دينية ثيوقراطية قائمة على أسس سلالية، عن وجوب حصر إمامة المسلمين في «البطنين» وهما ذرية الحسن والحسين، وهي المقولة التي أسست لمشروعية حكم آل حميد الدين، على اعتبار أن كل حاكم لا ينتمي سلالياً لـ«البطنين» يعد غاصباً لـ«حق» أهل البيت الذي أوصى به جدهم النبي محمد بن عبدالله لجدهم الوصي علي بن أبي طالب، وتوارثوه حسب ذلك الزعم إلى هذا اليوم.
وبمجرد أن عاد بدر الدين الحوثي إلى اليمن أسس مع زميله ورفيق «ارتزاقه» في السعودية» مجد الدين المؤيدي كياناً سياسياً بعد السماح بالتعددية السياسية في اليمن، تحت اسم «حزب الحق» الذي حملت تسميته إيحاءات ثيوقراطية تشير إلى معاني الحق في مقابل الباطل، وإلى دلالات الحق في السلطة في مقابل اغتصابها. وفي الانتخابات النيابية اليمنية سنة 2003 حصل «حزب الحق» الإلهي على مقعدين فقط من جملة 301 من مقاعد البرلمان اليمني، وانكشف الحجم السياسي للتوجهات الأمامية التي رأت أن السياسة لن توصلها إلى «حقها» في السلطة، فبدأت التفكير الجدي في العنف، وبدأت تعلي من شأن مقولاتها الفقهية في «وجوب الخروج على الحاكم الظالم» وهي المقولة التي كانت الأسر الأمامية في الماضي تشهرها عندما تريد التمرد على بعضها، ثم تخفيها بمجرد الوصول إلى السلطة، لتعلي من شأن مقولة فقهية أخرى هي «حرمة الإفساد (التمرد) على الإمام». أعلن بدر الدين الحوثي انشقاقه عن «حزب الحق» وبدأ سعيه لتأسيس تنظيم ديني عسكري، سمي حينها «الشباب المؤمن» وتحيل مفردة الإيمان هنا إلى تقابل معسكري الإيمان والنفاق، حسب اللاهوت الشيعي المعروف.
وقد آلت زعامة التنظيم الإيماني الجديد إلى نجل بدر الدين حسين الذي قاد التمرد الأول ضد السلطات اليمنية عام 2004، إلى أن وصلنا إلى أخيه عبدالملك الذي قاد التنظيم بعد مقتل حسين، حيث تم تحويل اسم التنظيم ـ لاحقاً – إلى «أنصار الله» وهي تسمية تقترب من تسميات إيرانية أخرى أطلقت على ميليشيات تابعة لطهران مثل «حزب الله وبقية الله وثأر الله ورَبْع الله» وغيرها من تسميات تشير إلى الأبعاد الدينية لهذه الميليشيات المسلحة التي مارست أكبر قدر من عمليات تسييس الدين على مر تاريخ اليمن والإقليم، إلى أن بلغت الجرأة بالحوثيين أن زعموا أن «الله أمر بتولي عبدالملك بدر الدين الحوثي» وأنه هو «السيد العلم من أهل البيت» الذي تشير الدلالات إلى أن الله اختاره لقيادة الأمة، في مواجهة أعدائها من «المنافقين والكفار» وعلى رأس هؤلاء الأعداء المملكة العربية السعودية التي استضافت أسرة الحوثي لعقود طويلة، قبل أن يعود بدر الدين لليمن، ليكشف عن عدائه العميق لأولياء نعمته، الذين أصبحوا يمثلون «معسكر النفاق والكفر وورثة الأمويين والنواصب» تماماً كما فعل الخميني الذي عاش في ضيافة العراق سنوات طويلة، هارباً من الشاه، ثم لما عاد للعراق أعلن الحرب على «حزب البعث الكافر».
هذه باختصار قصة «مرتزقة السعودية» السابقين الذين تحولوا إلى «أنصار الله» بعد أن استطاعت إيران توظيفهم لصالحها في صراعها المعاصر مع العرب، وهي قصة تشير إلى «ميوعة مفاهيمية» لمصطلحات لا تثبت على تعريف منطقي واضح، وذلك ليسهل توظيفها ضد الخصوم، في منطقة تشبه رقعة شطرنج دائمة التنقلات.
وفي ستينيات القرن الماضي كان الإماميون «مرتزقة السعودية» يتهمون رجال الجمهورية بأنهم «دستوريون» وكانت كلمة «دستوري» في اليمن تعني «كافر» ذلك أن ثوار 1948 في اليمن قاموا بأول ثورة نادت بملكية دستورية في الوطن العربي، وهو ما عد ـ حينها ـ تقييداً للحق المطلق للإمام الذي منحه الله إياه، وذلك التقييد هو «عين الكفر».
وظل الإمام أحمد حميد الدين يصف الثوار بعد ذلك بأنهم «دستوريون كفار» مدعومون من عبدالناصر واليهود والبريطانيين، لتمضي السنوات وتنتصر الجمهورية في اليمن، وتفرج المخابرات البريطانية ـ قبل سنوات قليلة ـ عن جملة من الوثائق المهمة تشير إلى أن الطيران الإسرائيلي كان يقوم خلال ستينيات القرن الماضي بعمليات متكررة لإنزال جوي بأسلحة لقوات الإمام في أعالي جبال اليمن الشمالية بتنسيق بريطاني، بهدف هزيمة الجمهورية المدعومة من جمال عبدالناصر.
ليس هناك – إذن – معايير محددة لتحديد معنى وماهية العمالة ومعايير الارتزاق إلا معيار واحد، وهو أن العمالة تعني ألا تكون معنا، وأن الارتزاق هو أن تكون مع الطرف الآخر، ووفقاً لطريقة التفكير تلك يكون تجنيد الحوثيين للأطفال في الحرب وزراعة الألغام وإرسال الصواريخ البالستية والطائرات المسيرة الإيرانية على مأرب وعدن والمخا وأبها وأبوظبي، ويكون تخزين السلاح الخطير وإقامة ورش إعادة تجميعه وسط الأحياء السكنية، ويكون نسف الجسور والمنازل ورفض كل مبادرات السلام، تكون كل تلك الجرائم عملاً وطنياً خالصاً، في حين يكون الرد على تلك الجرائم الموثقة في تقارير دولية، يكون هذا الرد جرائم حرب يقوم بها «العدوان ومرتزقته».
هذا الصنيع في احتكار الوطنية يذكرنا بصنيع حزب الله في احتكار المقاومة في لبنان، لا لشيء إلا لاحتكار وحصر السلاح النوعي على جماعته، لاستمرار التحكم بالدولة اللبنانية، في وقت توصف فيه بقية شرائح المجتمع اللبناني بالعمالة لقوى الاستكبار الأمريكي الصهيوني.
إن احتكار الوطنية واحتكار المقاومة هو انعكاس لحصر الحق في شريحة معينة على أساس سلالي وجيني، وهذا الاحتكار لا يهدف إلى القيام بأفعال تجسد مفاهيم الوطنية والمقاومة، بقدر ما هو محاولة لإلغاء الآخر بشيطنته واغتياله معنوياً تمهيداً لتصفيته مادياً، وإبقاء الوطن والمقاومة على لون واحد يظل يتدثر بشعارات الوطنية والمقاومة لتحقيق أغراضه في السلطة والثروة، وقمع أي صوت آخر معارض.
لا يمكن ـ بطبيعة الحال ـ فهم تلك النظرة بعيداً عن نظريات «الاصطفاء والتطهر والحق» الديني، التي تكون «الأنا» بموجبها هي الدين والحق والطهارة والوطن والمقاومة والخير كله، ويكون الآخر هو الكفر الباطل والرجس والعدوان والعمالة والشر كله، وفي ظل هكذا منظومة مفاهيمية لا يمكن الوصول إلى حالة من السلم الأهلي والمجتمعي، وهذا أحد أهم أسباب تفجر الصراعات واستمرارها في منطقتنا العربية، كنتيجة لتغذية تلك التوجهات اللاهوتية من قبل نظام ثيوقراطي يعرف ماذا يريد من بلداننا، ويعتمد سياسات واضحة في نشر الفوضى والدمار لتحقيق أوهام الهيمنة الإقليمية والتفوق القومي والتوسع الإمبريالي الإيراني تحت شعار مقاومة قوى النفاق العربي والاستكبار العالمي.