قرون صنعاء احراز وطقوس غريبة
عبد الحكيم السلمي
روائح أبواب السنديان ونوافذ الطين الممزوجة بحبات العرق وقصص الحياة المُعاشة كل يوم، صباحتاها الأنيقة وشغف الضوء لأسوارها العتيقة، تفاصيل نقشِها يلامس الروح والجسد، والهمس يصبح صمتاً مهيباً في حضور صاحبة الجلالة “صنعاء القديمة”، السير في طرقاتها عشقٌ، تصوفٌ، وعبادة، تراصّ بيوتها في كل حي صفحات رواية لا تكتمل فصولها إلا بالمعرفة، نمط البناء تفاصيل تلهمُ الزائر بالولوج من أبوابها المتفرقة، “باب اليمن” إيقاع علم ودين وقصة نبي نحت اسمه على كل حجر.
وأنت تمر عبر أرضها فإنك تلاحظ تلاحم المباني على طول شوارعها التي تشكل حائطاً كبيراً متناغماً في توزيع الألوان ما بين البني والأحمر والأبيض والأسود، وتطل أغلب واجهاتها الخلفية على بساتينٍ كثر أو كما تسمى “المقاشم”، التي تمَّول سكان الحارات بما يحتاجونه من الأشجار والخضروات والفواكه المتنوعة والمختلفة.
وتعد أكبر الشوارع في صنعاء القديمة هي التي تبدأ من البوابات، وسرعان ما تضيق كلما توغلنا في المدينة أكثر، كما أن أغلب شوارعها تتجه من الشرق إلى الغرب أو العكس، ولهذه المدينة تسعة أبواب ويقال إن أسوارها كانت تمشي عليه ثمانية خيول مجتمعة.
حيث ترتفع عن سطح البحر نحو 2300 متر فوق سطح الأرض، وتحوي أكثر من 45 حارة، وأنت تمشي في حاراتها وشوارعها ستلاحظ موروثها الهندسي الجميل والفريد والغريب في آن واحد، سترى تلك “القرون” التي تزين مشارف وأركان بيوتها وتعبر عن معتقدات ساكنيها.
منذ القدم توارث ساكنو صنعاء القديمة هذه العادة الغريبة، حيث يقومون بوضع قرون حيوانات إما للوعل أو الثور في زوايا أسطح المنازل كنوع من طقوس الحماية للبيوت وساكنيها من المخاطر التي قد يتعرضون لها، أو إضافتها كعودة بالذاكرة إلى الزمن القديم لصيد الحيوانات.
في حارة الخراز إحدى حواري صنعاء القديمة التي يتواجد فيها كثيراً من القرون، يحدثنا محمد القربطي من أهالي صنعاء القديمة، بأن وضع هذه القرون على زوايا الأركان بمثابة حرز من الجن والشياطين وتمنع حضور الثعابين، وأنهم يقومون بتبخير البيوت بأحد هذه القرون والدخان المتصاعد يطرد بدوره الثعابين، بالإضافة إلى أنها ترسم طابعاً جمالياً على المنزل.
ويرى البعض أن وضع هذه القرون هو بسبب ارتزاق صاحب المنزل بالمولود الذكر فيقوم بعمل “الوكيرة” كنوع من الاحتفال ببعض المناسبات وهذه منها، وهي ضيافة “غداء أو عشاء” يقوم بها صاحب المنزل بدعوة أهله وأصدقائه، فيذبح الشاة ويعلق قرون الشاة على المنزل.
ويؤكد عاقل حارة طلحة حسين زينة، بأنه موروث تناقلوه عبر الزمن ولا يعتبر حرز يحمي البيوت فقط، بل إن البعض يرى أن هذه القرون لها تمييز طبقي، حيث في فترة من الزمن فُرض على الجزار أن يقوم بوضع قرون على بيته بحيث يعلم الآخرون تصنيف هذا البيت.
ويضيف زينة: “من العادات الغريبة أن المرأة الأرملة تزرع فوق سطح منزلها أشجار الشذاب لتمييزها، وأيضاً من يتناسبون في الزواج وبيوتهم متقاربة من بعض يتم بناء جسر صغير على السطح يصل بين المنزلين ويسمى الريشة ليسهل التنقل والزيارات، أما البيت الذي يكون له مدخنتين على السطح فإن له صلة باليهود وأصله يهودي.
ومهما حصل من مفارقات وتباعد في التفكير وشمولية الوعي فإن صنعاء القديمة ستبقي ذلك التنوع والحضارة والتعايش الأولي لمن سكنها والزائرين، فالجمال الذي يسكنها لا يُضاهى ولن يتكرر مرة أخرى فصنعاء حوت كل فن.