رحلة الروح بين نيرفانا و”دار السلام”
كان بوذا سليل أسرة ملكية، ولد في القصر، لكنه تركه إلى الغابات والبراري والأنهار، خرج من القصر ليبحث عن “مسكنات آلام” للبشرية. رأى أن آلام الروح تأتي من “رغبات الجسد”، وأن كل لذة تحمل في طياتها الألم، قرر أنه لكي نتخلص من الألم فلا بد من التخلص من الرغبات والغرائز البهيمية التي تجلب اللذة التي – بدورها – تبعث فينا الألم، وذهب يدعو إلى “التقشف” من أجل خلاصنا الروحي وسلامنا الداخلي.
تطورت تعاليم بوذا فيما بعد على يد تلاميذه وأتباعه، حتى تطرفت اتجاهات روحية داخل البوذية في نظرتها للجسد وغرائزه، أما بوذا فقد رأى في مراحل لاحقة أن “السلام الروحي” لا يأتي عن طريق التخلص من غرائز الجسد، إذ يصعب ذلك أو يستحيل، ولذا ذهب يبشر بطريق آخر للخلاص، ذلك هو طريق “التأمل والاستبصار” الذي ينفتح على سعادة الإنسان الأبدية وسلامه الروحي، ولاحقاً قامت بعض الاتجاهات في البوذية على أساس أن الوصول إلى الـ”نيرفانا” يتم عن طريق المزج بين التخلص من الرغبات الجسدية وإعمال التأمل الذهني الذي يتيح وسيلة لوصول الإنسان إلى ذلك المقام الذي هو الغاية النهائية لرحلة الإنسان على طريق الروح.
لم تكن البوذية ديناً، حسب الكثير من رجالها، ولكنها منهج روحي وفلسفة وجدانية، وليس فيها إله ولا حياة بعد الموت ولا حساب في الآخرة، وجنة البوذية هي الوصول إلى “نيرفانا” التي تمثل أرقى ما تصل إليه الروح في معارجها نحو السلام والسكينة، حيث لا نصل إلى تلك المرحلة إلا عبر متوالية من الولادات الروحية التي تنتقل فيها الروح من جسد إلى آخر، وصولاً إلى كمالاتها النهائية، حسب المعتقد البوذي في “التناسخ” الذي عن طريقه يتم الميلاد الجديد المصحوب بالألم في كل مرة تنتقل فيها الروح من جسد إلى آخر، بحثاً عن سلامها المفقود.
ومع مرور القرون جاءت مرحلة “الديانات السماوية” التي حاولت تقريب المفاهيم الروحية من الواقعية، وتقنين طريق الروح في تعاليم وشرائع تحولت فيما بعد إلى سلطة جمعية مرتبطة بمؤسسة، بعد أن كانت مسالك الروح فردية، بعيدة عن التشريعات والقوانين.
وفي هذا الشأن يمكن أن نلمح مراحل ثلاث كبرى في تاريخ الحراك الروحي والفكري للإنسان، ربما مثلت الأسطورة المرحلة الأولى لهذا الحراك، حيث غدت أساطير الأمم أديانها، قبل أن نشهد المرحلة الثانية، وهي مرحلة “الطرق الروحية”، التي يمكن أن نطلق عليها مجازاً أدياناً، وهي التي مثلتها البوذية وبعض الديانات الهندو-صينية، وغيرها من الديانات التي بالغت في التركيز على الأبعاد الروحية للإنسان، ثم تأتي المرحلة الثالثة من رحلة الإنسان الروحية، وهي المرحلة المتمثلة في “الديانات السماوية” الرئيسية: اليهودية والمسيحية والإسلام، والتي مثل الإسلام فصلها الثالث والأخير، وهو الفصل الذي أعيد فيه الاعتبار إلى الجسد باعتباره مجلى تجليات الروح، كما أعيد تعريف الإنسان بشكل ينتهي معه الفصام بين الإنسان/الذات والإنسان/المجتمع، على طريق الجمع بين حياة الإنسان الروحية باعتباره ذاتاً متفردة، وحياته المادية باعتباره كائناً مجتمعياً.
عُدّ الإسلام أو الفصل الثالث من المرحلة الثالثة فاتحة حراك روحي وفكري وعلمي وحضاري انجلى في العصور الوسطى عن استنتاجات مدهشة وإشارات لافتة إلى قضايا ونظريات علمية متقدمة
وقد عُدّ الإسلام أو الفصل الثالث من المرحلة الثالثة فاتحة حراك روحي وفكري وعلمي وحضاري انجلى في العصور الوسطى عن استنتاجات مدهشة وإشارات لافتة إلى قضايا ونظريات علمية متقدمة يعدها بعض المؤرخين الأساس الذي قامت عليه الحضارة الغربية المعاصرة في أبعادها العلمية التي يرى بعض المفكرين أنها تمثل المرحلة الرابعة من التطور الروحي والذهني للإنسان، وهي الفكرة التي تعد تجسيداً لمحاولات الإنسان الخروج عن النمط التقليدي لدى المؤسسة الدينية التي أفرغت الدين من محتواه الروحي الخالد، لتربطه بالسلطة الزمنية بأهدافها السياسية.
وعلى أية حال فإن الطريق الروحي الذي بدأ مع وجود الإنسان سيستمر مع هذا الوجود، ما دام لدى هذا الإنسان احتياجات أبعد من مجرد غرائزه الجسدية، وهي الاحتياجات التي يصعب تلبيتها في عالم المادة، ويصعب تفسيرها بمجرد مصفوفة من التفاعلات الكيميائية التي تحصل داخل الجسد، لدى من يفسر “الحب” – مثلاً – على أساس أنه مجرد نشاط هرموني مرتبط بهذه المصفوفة الكيميائية الغرائزية.
إذ لو قدرنا أن الإنسان محكوم بكيمياء الجسد، فلماذا نراه يتعالى على هذه الكيمياء؟
لماذا نرى الإنسان المحكوم بكيمياء الجنس يرفض أن يخضع لهذه الغريزة عندما تتعارض مع قيمه وتعاليمه؟
وماهي الأنا التي تتحكم في الإنسان عندما يرفض الانصياع للجوع ويصوم رمضان، على الضد من مقولات كيمياء الجسد؟
إنها قوة الروح التي نجدها عند الجندي الذي يضحي بنفسه في سبيل هدف أسمى من غريزة البقاء التي تولدها لديه سلسلة من التفاعلات الكيميائية.
إن اللوحة الجميلة والقصيدة المحلقة والنغمة الحالمة والتسبيحة الخاشعة والموقف النبيل والقيم العليا، كلها ثيمات لا تصدر عن كيمياء الجسد، بل عن “أنا” إنسانية أعلى من هذه الكيمياء، وإن كانت لا تتعارض معها.
من هنا كان الفصل الثالث من المرحلة الروحية الثالثة تتويجاً لطي الفصام بين الحياتين الروحية والمادية للإنسان، أو بين الصوم والفطر – على سبيل المثال – حيث يمثل الصوم الاستثناء على القاعدة التي يمثلها الإفطار، وهذا الاستثناء يأتي لفترة محدودة ولا يتنافى مع قاعدة الإفطار، قدر ما يؤكد على أهميتها، وضرورة التعاطي معها، على أساس أنها مع الصوم تمثل طريقاً للوصول إلى الهدف ذاته، كون الروح والجسد مكونين أساسيين للحياة، لا يصح الإخلال بأي من عوامل التوازن بينهما، وإلا شهدنا الاضطراب الروحي والفكري، ومن ثم الاجتماعي والسياسي والاقتصادي.
ومع وصول التدرج الروحي إلى مرحلته الثالثة في الديانات السماوية، ومع وصول تلك المرحلة إلى فصلها الثالث والأخير المتمثل في الإسلام، بدا واضحاً أن طريق الروح لا يتحقق بحرمان الجسد، كما في الكثير من الأديان القديمة، أو عند بعض التوجهات الرهبانية لدى المسيحية، ولكن القوة الروحية – بالمفهوم إسلامي – تتم عبر الصحة الجسدية. ويمكن الإشارة هنا إلى حديث نبوي لافت يقول: “صوموا تصحوا”، حيث ترتبط سلامة الآلة الجسدية بالصوم، كما ترتبط به قوة الروح التي تعد ضمن أهداف الصوم، كما في نص الآية”يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون”، حيث يحدث عند بلوغ مرحلة “التقوى” السلام الداخلي الذي ورد التعبير عنه في آية أخرى باسم “النفس المطمئنة”، التي تعتبر حالة وجدانية مغايرة للنفس القلقة التي لم تبلغ المراد بعد. تقول الآيات: “يا أيتها النفس المطمئنة، ارجعي إلى ربك راضية مرضية، فادخلي في عبادي وادخلي جنتي”.
وهنا تكمن الإشارة إلى أن “النفس المطمئنة” هي التي سعت إليها الطرق الروحية القديمة التي لا تتحدث عن البعث والنشور بالمفهوم الإسلامي، غير أن هذه النفس المطمئنة أو النيرفانا تعد – في الإسلام – مجرد جزاء دنيوياً لأولئك السالكين على الطريق، قبل الجزاء الأبدي في الآخرة، حسب المفهوم الإسلامي الذي يتجاوز البوذية إلى مفهوم الجنة الخالدة، وهي مرحلة تتجاوز النيرفانا البوذية إلى السلام الأبدي، في “دار السلام عند ربهم”، كما جاء في القرآن الكريم.
- نشر أولا في القدس العربي