مقالات

بين فراغ الحاضر وامتلاء الماضي

الشعوب التي تقدمت كان ماضيها خلف حاضرها يدفعها للأمام، والشعوب التي تأخرت وقف ماضيها أمام حاضرها يدفعها للوراء، ونحن أصبحنا في وضع يشكل فيه ماضينا «أزمة» فكرية ووجدانية يصعب الخروج من دوائرها التي تحيط بحاضرنا من معظم الجهات، وسبب الأزمة لا يكمن ـ وحسب ـ في الماضي وتأثيره على الحاضر، بل ـ كذلك ـ في الحاضر واسقاطاته على الماضي.

يحضر الماضي بقوة، لأننا نستدعيه، فنحن عندما تتصارع مصالحنا السياسية ـ مثلاً «نستحضر علياً ومعاوية، وإذا نجحت إحدى تجاربنا المعاصرة ـ ولو نجاحاً جزئياً مؤقتاً» نستحضر عمر وصلاح الدين، متناسين أن تجارب الماضي ـ سيئة أو جيدة ـ لا يمكن استنساخها في الحاضر الذي يستدعي الماضي بسبب فراغ مساحات هذا الحاضر التي نحاول أن نملأها إما بتجارب مختلفة تاريخياً، أو بأخرى مختلفة جغرافياً.

ونحن عندما نقول إن ماضينا حاضر بقوة، فإن الصورة الممنتجة لهذا الماضي هي الحاضرة، وهذه الصورة تسهم في إنتاجها تجارب السلف التاريخية بالإضافة إلى إسقاطات الخلف المعاصرة، وهنا تكمن الإشكالية في صورة الماضي الممنتجة لا في حقيقة التاريخ العارية، ذلك أن الصورة تعكس طموحات الحاضر المهزوم أكثر مما تعرض أمجاد الماضي المنتصر، علاوة على أنها صورة مختصرة ومقولبة وجزئية تركز على الملامح العسكرية والحربية لوجه تاريخنا، غير مدركة أن هذا التاريخ متنوع سياسياً واقتصادياً وعلمياً وفكرياً وفقهياً وفلسفياً وعسكرياً.

ويتم التركيز على الملمح العسكري للماضي من طرف فئتين على الأقل: الأولى دفعتها الهزائم المتواصلة في مجالات مختلفة، ومنها المجال العسكري، دفعتها تلك الهزائم إلى التعويض النفسي بالتركيز على الأمجاد العسكرية للقادة العظام ومقولاتهم الشهيرة من مثل: «لقد جئتك بجيش أوله عندك وآخره عندي» أو «لو أنكم كنتم في السحاب لحملنا الله إليكم أو لأنزلكم إلينا» أو من مثل: «البحر من ورائكم والعدو أمامكم» وغيرها من العبارات التي لها وقع خاص في النفوس التي أرهقتها الهزائم.

وقد مرت فترة على الدراما الرمضانية العربية، وهي تشتغل على هذه الصورة العسكرية التي تملأ سمع التاريخ وبصره، حيث لبَّتْ تلك الدراما عطش النفوس التي تعاني من الآثار الوجدانية لواقع الهزائم، لتجد تلك النفوس شيئاً من التعويض في التاريخ ورموزه، حيث ذهبت بعض عناصر من تلك الفئة لتقمص التاريخ بأساليبه ولغته، بأنماط حياته ومظهره، بتأويلاته وطريقة تفكيره لاستدعائه بكل جزئياته، من غير إدراك لتغير السياقات وجريان المياه تحت الجسور، وبسبب ذلك التقمص انطلقت موجات متطرفة عنيفة، ظنت أنها تحيي الماضي، ولكنها في الحقيقة تدمر الحاضر، ورأت أنها تحارب أعداء المسلمين، ولكن أغلب ضحاياها من المسلمين.

وفي المقابل، وعند تأمل الحروب الأهلية في بعض البلدان العربية اليوم لا يمكن إغفال دور تلك «الصور النمطية للماضي» في استعار تلك الحروب، حتى أن كثيراً من الساسة ورجال الدين وقعوا في هذا «الاسترجاع التاريخي» باستحضار صفين وكربلاء وعلي والحسين إلى معسكرهم، وبتشكيل المعسكر الآخر من معاوية ويزيد. إن حضور التاريخ، أو لنقل حضور الصورة النمطية المطلوبة يبدو واضحاً من خلال نظرة بسيطة لخطابات زعماء جماعات التشيع الجهادي والتشيع السياسي، كما هي ظاهرة لدى جماعات القاعدة وداعش وكثير من تنظيمات الإسلام السياسي.

وأما الفئة الأخرى التي تستدعي التاريخ العسكري فهي فئة مغرضة، تركز على تاريخ حروب المسلمين، لكي تختصره في جملة من الحروب والمعارك التي خاضها العرب والمسلمون ضمن سياقات معينة، وتصبغه بصبغة دموية، لا أثر فيها لحضارة، أو علوم أو قيم أو فلسفة أو شعر وأدب وفنون. والغرض من ذلك هو تكريس الصورة النمطية عن «المسلم ضعيف الخيال ذي الميول الإجرامية، المسلم الدموي الإرهابي الذي يفجر نفسه في أوساط المسالمين، ويستهدف المنشآت المدنية» وقد حرصت هذه الفئة من المستشرقين – قديماً وحديثاً – على تكريس تلك الصورة النمطية عن التاريخ العربي الإٍسلامي، لكي تذهب بعيداً لتقول بأن التأصيل لموجات العنف موجود في نصوص القرآن وأحاديث الرسول، بعيداً عن أي مقاربة موضوعية، تراعي السياقات اللغوية والتاريخية والاجتماعية للنصوص.

إن التفسير الأحادي للتاريخ، واختصار هذا التاريخ في شقه العسكري أدى إلى صياغة أجيال تنظر إلى العالم من زاوية التاريخ العسكري للمسلمين، لا الوصايا الدينية للإسلام، ولذا نلحظ تأثر المتطرفين اليوم بـ«النص التاريخي» أكثر من انقيادهم لـ«النص الديني» ذلك أن التاريخ الإسلامي قُدم لهم على أساس أنه في مجمله تاريخ حربي منتصر، وركز كتاب السير على قيادة نبي الإسلام للجيوش أكثر من ملاعبته للأطفال مثلاً، وتم إخراج صورة «نبي الرحمة» المذكور في القرآن على هيئة «قائد عسكري» لا يترك سيفه، كما بُوِّبتْ سيرة النبي الكريم حسب «الغزوات» التي كانت في معظمها معارك دفاعية أو استباقية لردع عدوان حاصل أو إجهاض آخر وشيك.

إن النظر إلى التاريخ على هذا النحو ـ بالإضافة إلى ما سبق ـ لا يؤدي إلى تحفيز المسلمين اليوم للسير على خطا الماضين من الآباء المؤسسين للحضارة العربية الإسلامية، كما يعتقد الكثير من الأصوليين، قدر ما يقذف الإحباط في قلوب الكثير منهم، نتيجة للبون الشاسع بين «التاريخ المفلتر» والواقع المعيش، وهو ما يجعل الكثيرين يحاولون التغلب على تلك الفجوة إما بردمها بشيء من «حشو غربي» لا يمكن أن يشكل أساساً لانطلاقة جديدة، أو بالاندفاع مع شعارات براقة ترفعها جماعات ومليشيات ودول توظفهم لمصالح لا علاقة لها بطموحات هؤلاء الشباب، ولا بالماضي الذي يقولون إنهم يقاتلون لاستعادته.

أخيراً: إذا كان الحاضر الفارغ يستدعي الماضي الممتلئ فإن الآيديولوجيا كان لها دور كبير في استدعاء هذا الماضي و«تنميط» صورته، لا لتقديم قراءة محايدة له، بل لتكييفه بما يخدم توجهات ورؤى ومصالح معينة، سواء كانت دوافع الآيديولوجيا تنزيه وتبرئة التاريخ من منظار صديق، أو تجريم وتشويه هذا التاريخ من منطلق عدو.

وباختصار: فإن ما نعيشه اليوم يعكس حالة الفراغ الذي يبحث عن الامتلاء، إنها حكاية السليل الضعيف الذي يكثر الحديث عن جده القوي، غير مدرك أن كثرة الحديث عن الأجداد لا تشير إلى قوتهم قدر ما تعكس ضعف الأحفاد.

– القدس