عن قراءة: ولا تقربوا الصلاة…”
محمد جميح
اجتزاء النص أو الاقتباس خارج السياق أو الانتقائية، كلها مترادفات لجريمة واحدة نتعرض لها بشكل متزايد ومنظم، الأمر الذي بات معه الوصول للحقيقة مهمة رسالية شاقة، ناهيك من قولها والصدع بها.
هذه العملية أو هذه الجريمة هي آفة القراءة والتأويل وهي أداة مزيفي الوعي ومحرفي التواريخ ومؤولي النصوص ومحرري نشرات الأخبار، وأصحاب الفتاوى والأحكام، وهي وسيلة ناجعة لتحقيق الأهداف وتزوير الوقائع وتزييف الحقائق. وهي الطريقة التي تتم فيها قراءة النصوص بأسلوب: «ولا تقربوا الصلاة»، أو «فويل للمصلين»، مع إخفاء بقية النص وبقية الدلالة، بغية نقض المعنى وتفريغ النصوص وإعادة شحنها بدلالات مغايرة، والذي يقرأ «وقاتلوا…» ولا يقرأ «ولا تعتدوا…»، أو يتلو «فاقتلوهم…» ولا يتأمل «فاجنح لها…»، كل هؤلاء لا يصلون إلى المعنى ولا يقفون على الصورة الكلية، ولا يدركون مقاصد الكلام، بل يصلون إلى الهوى والنزوات والتطرف، وإلى المعنى الذي وصل إليه أبو نواس الذي كان ينشد:
ما قال ربك ويلٌ للأولى سكروا
بل قال ربك ويل للمصلينا
ولئن كان تأويل أبي نواس يدخل ضمن «الهزل الشعري»، فإن طريقته هي المتبعة اليوم لدى كثير من المؤسسات «الجادة» وصولاً لدلالات تخدم أهدافاً بعينها، الأمر الذي نتج عنه غير قليل من التطرف والعنف وثقافة الكراهية، التي قرأت «فاقتلوهم…» وتلتْ «قاتلوهم…»، وغضت الطرف عن «ولا تعتدوا…» و»فاجنح لها…»، في محاولة لإضفاء دلالات بعينها على النصوص المقدسة، عبر قراءة غير موضوعية تقارب النص مجتزأً، لتكريس بعض الفرضيات المسبقة التي يسعى أصحابها إلى إثباتها من خلال اجتزاء النصوص. ومثل تلك القراءة أو ذلك الأسلوب يقوم به بشكل «مهني» كثير من وسائل الدعاية السياسية والإعلامية والثقافية، كما يمارسه الأفراد والمؤسسات على السواء، ويحتال الكثير من المحامين لتطبيقه، مستغلين أية «ثغرة قانونية»، لكسب معاركهم في ساحات القضاء، ويشتغل عليه كثير من الكتاب والباحثين والأكاديميين بصورة تجعل الباحث عن الحقيقة يتوه في بحر من النصوص المبتورة والحقائق المجتزأة، والاقتباسات المأخوذة من سياقات معينة، لإسقاطها على سياقات أخرى مختلفة، ما يراكم الكثير من الضبابية حول الرؤى والأفكار.
يقول تقرير حقوقي أممي – مثلاً – إن «القوات الحكومية قصفت مناطق مأهولة بالسكان تسيطر عليها المعارضة، في وقت قصفت فيه قوات المعارضة مستشفى حكومياً»، ليظهر التقرير بعد ذلك مختلفاً، حسب الوسيلة الإعلامية، حيث نستمع لنشرة أخبار التلفزيون الحكومي تذيع خبر إدانة الأمم المتحدة للجريمة المروعة باستهداف المعارضة المستشفى الحكومي، والتي نتج عنها قتل عدد «كبير» من المرضى والأطباء، ثم نستمع لنشرة أخبار المعارضة تذيع خبر إدانة الأمم المتحدة لجريمة استهداف الجيش الأحياء المدنية، الأمر الذي نتج عنه قتل وجرح المئات. وهنا تسكت وسائل إعلام الحكومة عن جريمة استهداف الحي السكني، وتصمت المعارضة عن جريمة قصف المستشفى، وكلٌ يأخذ من التقرير ما يريد، مع بعض «البهارات» اللازمة لتقديم وجبة أخبار «دسمة» تشد المشاهد من أذنيه وعينيه وباقي حواسّه، ليأتي دور «المحللين السياسيين» الذين يكملون ما تبقى.
وإذا كانت نشرة أخبار المساء تختلف من قناة إلى أخرى وهي تذيع أخبار ما حدث صباح اليوم، نتيجة لاختلاف مصادر الأخبار وسياسات القنوات وتوجهات المحررين، وزوايا الأحداث وانتقائية الأسلوب، فكيف برواية تاريخ وقعت أحداثه قبل مئات أو آلاف السنين؟ وهي الرواية التي تعرض صورة أحد الملائكة على هيئة شيطان في رواية أخرى، لنخرج بصورتين لشخص واحد، نقل صورته الأولى من انتصر ونقل الثانية من انهزم، أو ربما العكس. وإذا اختلفت نشرات الأخبار في إذاعة الحدث ذاته، فلا شك في أن تحليل الخبر بناء على نشرات مختلفة سيتسع لما لا يحصى من التأويلات التي ربما أدت إلى تعمية الرؤية بدلاً من إنارة الطريق، مع الأخذ في الاعتبار أن التحليل المحايد كالنشرة المهنية، كلاهما عملة نادرة. إن ما يحصل من تجريف للمفاهيم في الدين والفكر والثقافة والسياسة والإعلام، وما يتعرض له هذا الجيل من عمليات تزييف للوعي وغسيل للأدمغة، يمكن أن يشكل ظاهرة غير مسبوقة بهذا الحجم وهذه المنهجية، الأمر الذي حوّل وسائل إيصال الحقيقة إلى قنوات لتزييفها، مع تعمد كثير من الضجيج اللازم للتغطية على عمليات نهب العقول التي تجري بشكل منتظم يومياً، على وسائل إعلام تقليدية، وعلى «وسائل التواصل» التي تحولت إلى «وسائل تقاطع»، لها دور كبير في زعزعة السلم المجتمعي، وبث أفكار الكراهية والتطرف.
ورغم أن الحقيقة واحدة لكن اجتزاءها خارج سياقها يظهر لنا تضارب أجزائها، وعدم انسجام عناصرها، ووجود ألف وجه ووجه لها، وهذا هو سبب كل ذلك التضارب والغموض والفصام والانقسام وأنصاف الحقائق والأوهام، وهو سبب التأويلات المغلوطة التي تكمن وراء الكثير من الصراعات والحروب.
ومرة أحضر أحد المعلمين صورة له، وعَمَد إلى قصّها إلى قصاصات صغيرة، ثم وزع القصاصات على طلبته، وسألهم من يملك الصورة الحقيقية؟ ليزعم الجميع أن كلاً منهم يملك الصورة، غير أن المعلم وضح أن كل طالب لديه جزء من الصورة أو جزء من الحقيقة، وأن الصورة الكلية تكمن في إعادة تركيب القصاصات المختلفة. ولأن الصورة توزعت إلى قصاصات، ولأننا لا نمتلك إلا «شَقْفة صورة»، ولأن الرواية تأتي ناقصة، ولأن القصة تصلنا على فصول وأجزاء، ولأننا لا نزال عند العنوان أو الفصل الأول، ولم نقرأ بقية القصة، فإنه لا يصح أن ننطلق في أحكامنا على رواية لم نكمل قراءتها، رواية كُتبت في زمن مختلف ومكان مغاير، وهو ما يحتم علينا الحذر عند تلقيها أو تقييمها، ناهيك من إصدار أحكام عليها بناء على قراءتنا التي هي بدورها قراءة ناقصة لرواية ناقصة، ربما يأتي عليها زمن تعاد فيه قراءتها بطريقة مختلفة، لنكتشف حجم التحريف الذي تعرضت له الرواية، وحجم الخطأ الذي وقعت فيه القراءة، وبالتالي حجم التضليل والظلم الذي تعرض له هذا الجيل من قبل تلك الآلة الرهيبة التي تقوم باجتزاء النصوص وإخراجها من سياقاتها.
ذكر نجيب محفوظ مرة أنه لا حقيقة ثابتة في الصحف إلا ما يرد في صفحة الوفيات، وعلى اعتبار أن ما نعيشه وما نسمعه ونشاهده هو صحيفة كبيرة ممتدة حول عالمنا الواسع، فإن حجم صفحة الوفيات في تلك الصحيفة الكونية الكبرى ضئيل جداً مقارنة ببقية الصفحات. وإزاء كل هذا الركام من الخداع أشار الكثير من الأنبياء والمفكرين والفلاسفة إلى المهمة الرسالية لأولئك «القابضين على الجمر»، حسب تعبير نبي الإسلام، وهم القادرون على الجهر بالمسكوت عنه في النصوص الدينية والسياسية والقانونية والمتصدون لجرائم «نهب العقول»، أولئك الذين يرتقي فعلهم إلى مستوى «العمل الثوري» العظيم، حسب تعبير جورج أورويل.
أخيراً: ما أحوجنا اليوم إلى أن نقرأ الآية: «وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين» كاملةً، دون اجتزاء فعل الأمر: «وقاتلوا…»، حيث لا يكتمل المعنى إلا باكتمال المبنى، بعيداً عن الأهداف الشائنة في اجتزاء النصوص والقراءات.