مقالات

مونديال قطر: أبعد من ضربة جزاء

السياسة تشبه الكرة، والكرة دائرية، تدور ليربح الخاسر ويخسر الرابح، وكذلك السياسة، وكما أن الكرة لعبة فإن السياسة لعبة أكثر تعقيداً، تسعى بكل الوسائل لتسجيل الأهداف، مع فارق جوهري وهو أن حَكَم الكرة يتنبه لـ«أهداف التسلل»، على عكس أهداف السياسة التي تسجل غالباً عن طريق التسلل والتحايل على قواعد اللعب، كما أن حَكَم السياسة قد يغض الطرف عن كثير من أهداف التسلل، لأن لعبة السياسة تركز على تسجيل الأهداف أكثر مما تحترم قواعد اللعب، وهو ليس الشأن فيما بخص لعبة الكرة التي تحترم قواعد اللعب، وتخشى صرخات الجمهور الذي لا تعيره السياسة كثير اهتمام، لقدرتها على خداعه واللعب على توجهاته النفسية والعاطفية.

وفي مونديال قطر حضرت السياسة في تفاصيل الفوز والهزيمة، وحضرت الثقافات والأيديولوجيا والتاريخ وشيء من صراع القيم والحضارات، وحضرت القضية الفلسطينية بوصفها القضية المركزية التي ران عليها غبار الحروب الأهلية في البلدان العربية التي أصبح في كل بلد منها فلسطين وقدس ولاجئون، غير أن فلسطين ـ رغم كل ذلك ـ حضرت بقوة، وبشكل عفوي عند الجماهير التي هتفت لها، واللاعبين الذين ارتدوا علمها، وحضرت في رفض التعاطي مع وسائل الإعلام الإسرائيلية التي جاءت للمونديال لتثبت إن التطبيع قطع مراحل كبيرة، غير أن المراسلين الإسرائيليين أصبحوا أضحوكة أمام مشجعين عرب بسطاء رفضوا بشكل عفوي التعاطي معهم، الأمر الذي ناقشه المعلقون الإسرائيليون باستفاضة.

كما حضرت السياسة عندما فاز فريق الولايات المتحدة على المنتخب الإيراني، إلى الدرجة التي دفعت الرئيس الأمريكي لإعلان خبر فوز منتخب بلاده بنفسه خلال مؤتمر في ميشيغان، حيث بدا بايدن منتشياً وهو يعلن: «الولايات المتحدة واحد، إيران صفر، انتهت اللعبة» قبل أن يختم بعبارة ذات إيحاء ديني: «فليحبهم الله»، ونحن إزاء تلك العبارات نستشف دلالات أبعد من «لعبة كرة»، دلالات تنفتح على مديات سياسية ودينية تحوِّل «لعبة الكرة» إلى لعبة من نوع آخر تكتسب فيها مصطلحات «الفوز والهزيمة» مفاهيم معركة، لا لعبة وحسب.

وعلى الجانب الإيراني يُلحظ أن النظام نظر إلى اللعبة بعيون أمنية وسياسية وأيديولوجية، حيث أرسل آلاف المشجعين لتشجيع المنتخب الذي كان النظام يؤمل أن يمده بشيء من «نصر رياضي» يخفف عنه أثر الضغوط الخارجية والداخلية، غير أن المنتخب أرسل للنظام رسالة سياسية في أول ظهور له في المونديال، عندما وقف لاعبوه صامتين أثناء عزف النشيد الوطني لبلادهم، في تضامن مع حركة الاحتجاج، وفي إشارة فُهم منها أن اللاعبين يرون هذا النشيد نشيداً للنظام لا نشيد الوطن، تماماً كما عبر الكثير من المحتجين الذي أقدموا على حرق علم البلاد الذي يرونه علم النظام لا علم إيران، بكل ما في تلك التصرفات من رسائل سياسية خالصة.

في مونديال قطر حضرت السياسة في تفاصيل الفوز والهزيمة، وحضرت الثقافات والأيديولوجيا والتاريخ وشيء من صراع القيم والحضارات، وحضرت القضية الفلسطينية بوصفها القضية المركزية التي ران عليها غبار الحروب الأهلية في البلدان العربية التي أصبح في كل بلد منها فلسطين وقدس ولاجئون

ونظراً للظلال السياسية الكثيفة التي خيمت في لحظات ومواقف كثيرة ضمن المونديال نجد أن المعارك التي كانت تجري بروح رياضية داخل الملعب كانت تنفجر بشكل واسع على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي، لتعبر عن توجهات سياسية وأيديولوجية وطائفية، تعد ضمن ارتدادات لعبة الكرة في الفضاء الافتراضي.

وعندما انهزم فريق إيران أمام فريق أمريكا ضجت وسائل التواصل بعدد كبير من التغريدات الساخرة، بغض النظر عن أداء الفريق الإيراني رياضياً، وجاءت تلك التغريدات من مغردين يمنيين وعراقيين وسوريين ولبنانيين، بشكل يستحضر التدخل الإيراني في البلدان المعنية، بما يضفي على الكرة ظلالاً سياسية واضحة، غير أن الرسالة السياسية الأعمق والأبعد عن التوقع كانت احتفال عدد لا بأس به من الإيرانيين داخل بلادهم بهزيمة منتخبهم أمام المنتخب الأمريكي، حيث خرجت أعداد من المبتهجين تعبر عن فرحتها في طهران ومدن أخرى باحتفالات لم تكن بالطبع تخلو من الرسائل السياسية التي حملت أكثر التصرفات غرابة بإطلاق الإيرانيين الألعاب النارية، ابتهاجاً بهزيمة منتخبهم، الأمر الذي ربما يُعد مؤشراً على انحياز المحتجين لا للفريق الرياضي الأمريكي ضد الإيراني، ولكن للنموذج السياسي الأمريكي ضد نموذج نظام الحكم في بلادهم.

وإمعاناً في تحميل كرة القدم مدلولات أبعد كان لفوز الفريق السعودي على نظيره الأرجنتيني وقع المفاجأة التي فجرت فرحة عربية اختلط فيها الشعور القومي بالفرحة الرياضية الخالصة، وهي الفرحة التي انعكست على تصرفات هرم القيادة في السعودية التي كانت تراقب وتتابع، كما ظهر في لقطات لولي العهد السعودي بين عدد من مساعديه ومقربيه، وهو يشاركهم فرحة الفوز، في انفتاح للحدث الرياضي على ما هو أبعد من مضامينه الكروية إلى مديات سياسية كثيفة، جعلت فوز المنتخب السعودي لا يروق لمعسكر إيران الإعلامي، إلى الحد الذي جعل أنصار هذا المعسكر يبتهجون لهزيمة «الأخضر» أمام منتخب المكسيك، في انعكاس واضح لتمازج الرسائل والإشارات والدلالات، قبل أن يُحدث فوز المغرب على البرتغال موجة كبيرة من الفرح العربي والأفريقي بدت فيها مشاعر «الوحدة الشعورية» و«الانتماء القومي»، وذلك بتحميل الـ»فوز الكروي» معاني الـ»نصر الحضاري» للضفة الجنوبية للمتوسط على نظيرتها الشمالية، بما يحمله ذلك من إيحاءات تاريخية وإحالات ثقافية وأبعاد سياسية بعيدة الدلالات.

كل تلك الإحالات تضاف إلى ما صاحب هذا المونديال من حملة شرسة ضد قطر، رغم حصولها على شهادات كثيرة على مستوى التنظيم والإدارة، ما يعني أن تدخل اللعبة السياسية في مسارات اللعبة الكروية لم يقتصر على الدول والأنظمة، بل امتد إلى الكتاب والمعلقين ودوائر سياسية وأكاديمية واسعة في أوروبا والولايات المتحدة.

ومع ذلك فإن السلطات في قطر سعت – بدورها – من خلال تنظيم المونديال إلى إرسال رسائل أبعد من الإطار الرياضي للعبة، وتسجيل أهداف أقوى من تلك التي هزت شباك المرمى الكروي، هذه الأهداف غير الرياضية ربما كانت ضمن أسباب الحملة التي شُنت على قطر، عبر كميات ضحمة من الدعاية المضادة ذات المضامين الأبعد من المحتوى الرياضي للمونديال الذي ربما كان تنظيمه ضمن نطاق جغرافي وثقافي بعيد عن المركزية العالمية سبباً وراء الحملة المنظمة ضد استضافة دولة عربية لتلك الألعاب التي سُجلت فيها الكثير من الأهداف الرياضية التي هزت الشباك، ناهيك من الأهداف السياسية والثقافية المسجلة التي كانت بلا شك أبلغ وأبعد أثراً من الأهداف السهلة التي سجلتها ركلات الجزاء في المونديال الذي كان الأكثر إثارة للجدل في تاريخ بطولات كأس العالم.