مشهد مرتبك في البحر الأحمر
يتمنى الغربيون أن يعود الزمن بهم إلى عام 2018. ربما لو عاد الزمن، لكانوا يحجمون عن التدخل في مصير معركة ميناء الحديدة والساحل اليمني على البحر الأحمر. يومها كانت قوات العمالقة المدعومة من الإمارات تتقدم بقوة وتحرر المدن الساحلية وتلك القريبة من الساحل وصولا إلى الحديدة. في لحظة فاصلة من المعركة، عندما كانت قوات العمالقة على أبواب المدينة والميناء، تدخّل الغرب، وخصوصا بريطانيا، لإجهاض العملية بوضع الكثير من الضغوط على دول التحالف لمنع دخولها المدينة والسيطرة على الميناء.
الحوثيون اليوم يهددون الملاحة في البحر الأحمر بدعوى الضغط على إسرائيل لكي تكفّ عن تدميرها غزة وقتلها للفلسطينيين. هذه فرصة لن تتكرر للحوثيين ولداعميهم الإيرانيين للتذكير بمن يتحكم بواحد من أهم الممرات البحرية في العالم. لو لم تشتعل حرب غزة، كان الحوثيون سيجدون حجة أخرى. استعراض القوة في البحر الأحمر هو تذكير حوثي وإيراني بمن انتصر في حرب اليمن.
وزّع الحوثيون حصص انتصارهم في الحرب على جميع المتضررين. لا أحد يتحدث الآن عن اليمنيين تحت حكم الحوثي. تبدو المسألة تحصيل حاصل. لكن ما يقلق العالم والإقليم هو تأكيد الحوثيين على أنهم قوة لا يستهان بها في المنطقة، قادرة على فرض شروطها أولا على الأرض، ثم الآن في البحر.
أول المتضررين هي مصر. تبدو مصر بعيدة نسبيا، على الأقل جغرافيا، عن الصراع في اليمن. لكنها اليوم في قلب معمعة الصراع.
البحر الأحمر ببوابتين: الأولى هي قناة السويس والثانية مضيق باب المندب. أغلق واحدة من هاتين البوابتين، فيتحول البحر الأحمر إلى بحيرة بمدخل واحد هو نفسه المخرج. شركات الشحن البحري الكبرى التي امتنعت عن إرسال سفن الحاويات عبر البحر الأحمر، إنما تقول إن عدد السفن الذي سيمر من قناة السويس سيشهد تراجعا غير مسبوق. العالم جرّب خطورة الأمر أيام الصراع العربي – الإسرائيلي عندما أغلقت قناة السويس بعد احتلال إسرائيل لسيناء عام 1967 وتحوّل القناة إلى “أرض حرام” بين القوات الإسرائيلية والقوات المصرية. عدم مرور السفن في القناة يعني ثمنا باهظا مصريا.
ثم هناك المسيّرات والصواريخ التي يطلقها الحوثيون بدعوى استهداف إسرائيل. لم تصب هذه المسيّرات أو الصواريخ هدفا إسرائيليا، لكنها ضربت أكثر من مكان في الجرف المصري من خليج العقبة. وسواء أكان هذا استهدافا لمصر أم خطأ في برمجة المسيّرات، فإن مصر تتعامل مع الأمر كتهديد خطير وتتصرف على أساس إسقاط المسيّرات التي تقترب من حدودها.
المفردة التي رددها المصريون عندما اشتعلت حرب اليمن هي “مسافة السكة”. صحيح أنها لم تجد أيّ تفسير عملي لها ولم تتحرك أيّ قوات مصرية للتدخل في منطقة أقل ما يقال عنها إنها تقع في مجالها الحيوي، لكن نجد اليوم أن “مسافة السكة” و”فركة كعب” كما يقول المصريون بلهجتهم الشعبية تجد تفسيرها حوثيا. الحوثيون اليوم على “مسافة السكة” من مصر وليس المصريون من اليمن.
التحالف، المتضرر الثاني، يدفع الآن ثمن الإنصات للتهديدات الغربية عندما كان على أبواب الحديدة. لعل أقل ما يمكن أن يقال إن الغرب ابتز دول التحالف سياسيا وإعلاميا. توهم البريطانيون خصوصا أن لهم حصة في اليمن. كان التنسيق عام 2018 على أقصاه بين البريطانيين والإيرانيين. وكان في وجه منه يتعلق باليمن. ضغطوا على دول التحالف بشكل كبير لإيقاف عملية الحديدة، ورتب المبعوثون الدوليون اتفاقا أعاد عمليا سيطرة الحوثيين على المدينة ومينائها بعد أن كانت قوات المتمردين قد انسحبت خارج المدينة.
منذ يوم توقفت معركة الحديدة، صار مسار الصراع لصالح الحوثيين بشكل كامل. يضع الحوثيون شروطهم ويتشددون بها، والتحالف يوافق بعد أخذ ورد. يمكن القول إن الحوثي أسس قوته التي يستعرض بها اليوم على المنطقة والعالم فيما بعد الحديدة. بل إن الوضع وصل إلى ضياع النظرة الإستراتيجية لخطورة تأسيس كيان طائفي موالٍ لإيران جنوب الجزيرة العربية. كل ما يهمنا الآن هو توقيع اتفاق سلام مع الحوثيين يحوّل الهدنة الحالية إلى اتفاق سلام. السعودية على سبيل المثال، لا تريد أن ترى أن بعض السفن المستهدفة خلال الأسبوعين الماضيين كانت في طريقها لموانئ سعودية وليس لإسرائيل. ولم تغير الحرب في غزة وكل التصعيد الحوثي من إيقاع التوصل إلى اتفاق سلام يقال إنه ينتظر الموافقة الحوثية النهائية للتوقيع عليه.
لا شك أن الغرب، المتضرر الآخر من الوضع الجديد، لا يريد للسعودية أن توقّع اتفاق سلام مع الحوثي. الآن تنبّه إلى خطورتهم. وسنفترض أن السعودية سترد على الغرب: أوقّع اتفاق سلام مع الحوثي وأنهي الحرب، ثم شكلوا تحالفكم واستهدفوه.
النفاق الغربي، أو الارتباك، لا يتجسد فقط في ازدواجية المعايير عندما يتعلق الأمر بإسرائيل وجرائمها بحق الفلسطينيين في غزة وغير غزة. بل هذه الازدواجية اليوم تبلغ مداها في كيفية التعامل مع الحوثي بوجود الحرب القائمة في غزة. فالغرب استسهل الحديث عن منع توسع الحرب خارج حدود غزة. وبحاملتي طائرات في شرق المتوسط، ضمن أن تدخّل حزب الله سيكون استعراضيا وبلا قيمة إستراتيجية. وكانت المسيّرات الحوثية، حتى تلك التي تنفذ من شبكة اصطيادها عبر نشر سفن حربية غربية على طول الطريق البحري بين اليمن وخليج العقبة، لا تشكل تهديدا يستحق قرع أجراس الخطر، إلى حين زادت شهية الحوثيين وبدأوا بتعطيل الملاحة في البحر الأحمر واستهداف السفن بالهجمات والإنزال بالمروحيات. لا شك أن الغرب لا يستطيع البقاء ساكتا، لكنه يسأل نفسه عن كيفية تحقيق غايتين متناقضتين في وقت واحد: منع توسع رقعة الحرب واستهداف الحوثي؟ بعض دول الغرب من صاحبات التاريخ في المنطقة، هرولت إلى تقليب دفاتر تواجدها. فرنسا الآن تعود إلى تجديد علاقاتها بجيبوتي، بل إن دولا تجد نفسها معنية بالأزمة، مثل تركيا، صارت ترسل سفيرها للتجول بعد انقطاع في مدينة سواكن على الضفة السودانية من البحر الأحمر. سنرى إن كان الغرب سيكتفي بحماية الملاحة واستهداف المسيّرات الحوثية، أم أن يبادر لـ”توسيع رقعة الحرب”.
الحوثيون، ومن خلفهم إيران، يعرفون أهمية الصيد الثمين الذي تمثله حرب غزة. سمعة الغرب وإسرائيل الآن في الحضيض بين العرب، بل والعالم. لو كان الهدف هو أذى إسرائيل عسكريا، لكان الرد الأكثر تأثيرا وفاعلية قد أتى من حزب الله الذي يخزّن كل صواريخه ومسيّراته على مرمى حجر من إسرائيل، ولديه من المقاتلين المدربين أعداد كانت كافية ليس للسيطرة على لبنان بالكامل وحسب، بل للتدخل وتغيير مسار الحرب الأهلية في سوريا.
ما يهم إيران الآن هو القول للجميع إنها تسيطر من خلال الحوثيين على جنوب البحر الأحمر. “الموت لإسرائيل واللعنة على اليهود”، شعار الحوثيين، هو آخر ما يهمّ الإيرانيين اليوم. كلما طالت حرب غزة، كلما ترسخت فكرة هيمنة الحوثيين وإيران على المضيق والبحر.
مشهد مرتبك في البحر الأحمر هو خليط من “مسافة السكة” المصرية وتدخلات الغرب وازدواجيته وتجاوب في غير محله من دول التحالف للضغوط الغربية ودماء ومآس فلسطينية في غزة وجرائم إسرائيلية وعنجهية إيرانية وقصر نظر لعالم عربي يصفق محتفيا بنجاح خطة الحرس الثوري الإيراني لبسط النفوذ على المنطقة.
د. هيثم الزبيدي
كاتب من العراق مقيم في لندن