مقالات

الصحافة وتحرير العقل

هناك قضية في غاية الأهمية ترتبط ارتباطا وثيقا بالصحافة والعمل في ميدان الصحافة، غير أن هناك كثيرون يجهلون حتى اليوم هذه القضية.

هذه القضية التي بصدد الحديث عنها هي الارتباط بين الصحافة كرسالة وهواية ومهنة وفن والعقل باعتباره المدرك لجوهر الصحافة من جهة والمستهدف الأساسي من قبل الصحافة في تنويره بالحقائق وتجنيبه الخرافات والزيف والكذب والنفاق والسطحية والتجهيل وهيمنة وسيطرة سلطات الواقع عليه من جهة أخرى .. وإعلاء قيمة العقل الإنساني، ليتحرر فيها الإنسان من كل أنواع الهيمنة والسيطرة، على حريته وتفكيره ونشاطه الإنساني، والتشجيع على استعمال العقل لخدمة الإنسانية.

فالكتابة وعبر تاريخها منذ الأزل كانت طينية وحجرية وجلدية حتى تطورت وأصبحت ورقية واكترونية أدبية أو بحثية أو صحافية.. وهي تحاكي وتخاطب العقل وملازمة للعقل البشري في تفاصيل حياته اليومية.

وهذه الكتابة الصحافية بعناصرها التحريرية ( الخبرية والمقالية والتقريرية والاستطلاعية والحوارية )، جاءت لتتحمل مسؤولية تنوير العقل وتحريره من كل ما يسيطر على واقعه من زيف وخرافة وكذب ونفاق وعنصرية وتلميع وتمجيد المجرمون والقتلة والفاسدين .. لتمثل بذلك مصباح وضوء العقل وإن جاز لي التعبير عقل العقل البشري في كشف متناقضات ما يتلقاه ظاهريا وما يحدث على الواقع فعليا وتقدم نفسها للعقل كأداة للحقيقة والتمكين المعلوماتي والمعرفي على مختلف الأصعدة وتساعده في تجنب كل ماهو منافي للحقيقة.

ويصف الرئيس الأمريكي جيفرسون الصحافة بأنها هي عين الشعب على الحاكمين وانها خير أداة لتنوير عقل الإنسان، ولتقدمه ككائن عاقل أخلاقي واجتماعي.. ويقول الصحافي والروائي والناقد البريطاني المعروف جورج أورويل، أن الصحافة هي أن تنشر ما لا يريد أحدهم أن يراه منشورا، وفي ما عدا ذلك، فهي مجرد علاقات عامة.

ويقول الكاتب الصحفي المصري أحمد أيوب رئيس تحرير جريدة الجمهورية ورئيس تحرير المصور المصرية، إذا كانت قواتنا المسلحة تحمي حدودنا وأرضنا وأمننا القومي، فإن الصحافة القومية والإعلام الوطني والإعلام القومي بشكل عام يحمي العقل المصري.

ويقول الكاتب الصحفي الجزائري عبد العالي الزواغي: تظل الصحافة في جوهرها نوعا من أنواع المقاومة لكل أشكال الهيمنة التي تعوق بروز الحقائق وتدفق الوعي، وهي درع واق من الصدمات والهجمات والمؤامرات التي تستهدف عقل ووجدان الجمهور،.. اي أن الصحافة هي بارومتر الحريات الذي يقيس جودة المناخ الديمقراطي في أي بلد..وهي المؤشر الذي يعمل على تنوير العقل وإحاطته بمعلومات وتحاليل كافية تجعله قادرا على رؤية الحقائق واتخاذ مواقف من القضايا والأحداث والشخصيات بكل عقلانية ووعي.

فصحافة تحرير العقل هي التي يتحقق فيها العدل والانصاف في تبني القضايا بمصداقية وموضوعية وحيادية سعيا منها لتنوير العقل وتحريره من هيمنة الإثارة وسلطة الجذب الديكتاتوري للقراءة من باب التسلية وليس من أجل التمكين المعرفي.

وهي التي تحترم عقل القارئ وتحرره من سلطات السياسات الصحفية للوسائل والأدوات الصحفية وتنويره وتزويده بالحقائق وتمكينه المعرفي الحر والصادق .. وتتبنى القضايا وترصد وتوثق وتحلل وتقدم الحلول والمعالجات للقضايا الوطنية والمجتمعية والإنسانية، وعلى ضوء يتخذ العقل المواقف المناسبة والصحيحة ويصبح قادر على تشخيص وتحليل ماهو كائن وما ينبغي أن يكون .

حقيقة الصحافة التي تديرها السياسات البرجماتية ( النفعية ) والسوفسطائية ( تزييف الحقائق والتجهبل ) والعنصرية والمناطقية وتقلب المواقف وعدم ثباتها، وتركيزها على جوانب الإثارة بهدف القراءة وليس التمكين المعرفي ومعرفة الحقيقة .. هذه الصحافة يستحيل أن تساهم في تحرير العقل من الخرافات والتجهيل وتنويره بما يحيط به من شؤونه الإنسانية وشؤون وطنه ومجتمعه وبالتالي يستحيل أن يكتب لهذه الصحافة الخلود لكونها لم تسكن ذات يوم في ذاكرة القراء ..لأن الصحافة ليست سلطة رابعة وحسب بل سلاح الدول في حماية العقل الفردي والعقل المجتمعي من المخاطر الفكرية والمذهبية والأخلاقية والاستعمارية التي تتسلل لاقتحامه تحت وطأة الجهل المعرفي والفقر والبطالة والظروف القاهرة وتقلبات الأوضاع السياسية والانهيار الاقتصادي ويصبح سهل الوقوع في هذه الفخوف مالم تكن الصحافة قد ساعدته بالموانع الكافية وحصنته من الاستجابة لها وجعلته عقلا حرا مستنيرا .